بقلم العميد شوقي الطبيب

هل لنا نحن معشر التونسيين تاريخ مع الفساد ملازم لدولتنا منذ مئات بل آلاف السنين …؟  سؤال طالما كنت أطرحه وأنا أقلّب ملفات ودفاتر الفساد قديمها وحديثها، حتى وصلت إلى الاستنتاج التالي: نعم الفساد كان ملازما منذ آلاف السنين لدولتنا التونسية ومؤسساتها على مختلف الحقب والتسميات وتحت مختلف الرايات… يمكن أن ننطلق في العد أو التأريخ منذ امبراطورية قرطاج … وتحديدا إلى القرن الثاني قبل الميلاد لنكتشف أنّ القائد القرطاجني العظيم حنبعل الذي نفاخر به العالم لم تهزمه جيوش الرّومان على كثرتها بل هزمه الفساد الذي كان ساكنا بين أسوار قرطاج، هزمه تحديدا جشع بعض شيوخ مجلس جمهورية قرطاج الذين باعوا ذممهم لروما فمنعوا عن حنبعل المَدد، وأبرموا من ورائه صلحا مذلاّ مع الرومان الذين أحرقوا قرطاج مرتين…

وفي لمحة تاريخية أكثر تفصيلا حول الفساد في تونس، فإن الباحث والمؤرخ عبد الواحد المكني[1] يخبرنا أن أقدم نصّ يشير إلى هذه الآفة ومقاومتها يعود إلى سنة 180 ميلاديّة، وهذا النصّ هو عبارة عن نقيشة مكتوبة على الرخام تمّ اكتشافها سنة 1879 في جهة سوق الخميس ببوسالم وتسمى Le saltus burunitanus وهي عبارة عن عريضة تَظلُّم صدرت عن مزارعين كانوا يعيشون في ضيعات كبرى بالجهة، تمّ توجيهها إلى الإمبراطور الروماني آنذاك «مارك أورال» يشتكون من ممارسة اللزّامة الذين كانوا يستخلصون منهم مبالغ باهظة تتجاوز نصف مرابيحهم ومن تعسُّف كبار المالكين وخصوصا من قساوة الجنود الرومان وجبروتهم الذين كانوا يجحفون في استخلاص الإتاوات وفي زيادة عدد أيام السخرة la corvée بدون موجب، والإيجابي في الأمر أن الإمبراطور أجرى تحقيقا في الأمر أفضى إلى اثبات التجاوزات فأمر بوضع حد لها وإنصاف المتظلمين…

 أما خلال الفترة العربية الإسلامية، فهناك مصدر مرجعي هام وهو كتاب «أحكام السوق» ليحيى بن عمر يتحدّث فيه عن نظام الحسبة في إفريقية وخصوصا في مدينة القيروان وسوسة وكيف كان المحتسب يقوم بردع المخالفات سواء كان الفساد صغيرا في العسل والسمن أو فسادا كبيرا في البناءات والترميم…

وبالانتقال إلى تاريخ الدولة الوطنية، فمن الممكن الاعتماد على وجود أرشيف ممتاز يعود الفضل في تكوينه إلى عراقة الدولة والذي كان يسمى بــ«خزينة دار الباي» نظرا لحفظه في دار الباي في قصر القصبة قبل أن يتحول إلى الأرشيف الوطني التونسي سنة 1988، وفي هذه الخزينة يوجد 4021 دفترا فيها تقريبا كل التاريخ الجبائي والإداري للدولة التونسية، منها 200 دفتر مخصص «للفساد وردعه» وهي موضوع أطروحة كاملة للمؤرخ جمال بن طاهر.[2]

وبالعودة إلى الفساد الكبير الذي عرفته تونس وكان سببا للتخلف التاريخي الذي مهّد مباشرة للاستعمار، فيجب التذكير أولا أن تونس في القرن التاسع عشر عرفت تشكيلة حكم فيها البايات الحسينيون، إلى جانب أهل البلاد المعروفين بأبناء المملكة، وفيها أيضا المماليك وهم في الأصل «عبيد أو مماليك تم شراؤهم من أسواق النخاسة»، وقد جُلبوا صغارا إلى تونس من بلدان أجنبية وتغلغلوا في جهاز الدولة ومنهم من اشتهر بالصلاح والرشاد مثل خير الدين أو الجنرال حسين ومنهم من عُرف بفساده…

وهناك العديد من المصادر التي تناولت سيرة هؤلاء المماليك، من أهمها كتاب الجنرال حسين «حسم الإلداد في نازلة محمود بن عياد» الذي اهتم كما يشير العنوان بسيرة محمود بن عياد المولود في جربة وهو من عائلة مخزنية معروفة، وفي سنة 1852 هرب بأموال المملكة إلى باريس حيث بدأ حربه ضدّ الدولة التونسية من خلال القضاء الفرنسي والإيطالي معتمدا على جنسيته الفرنسية…

هناك مصدر ثان وهو كتاب «سيرة مصطفى بن إسماعيل»، والذي كان الوزير الأكبر من سنة 1878 إلى سنة 1881 تاريخ الإمضاء على وثيقة الحماية، مع العلم أن مصطفى بن إسماعيل كان بدوره متحصلا على الجنسية الفرنسية…

كان لهذا الثنائي محمود بن عياد ومصطفى بن إسماعيل وأعوانهما دور مهمّ في تخريب الاقتصاد التونسي والتمهيد لدخول المستعمر، وقد قال في بعضهم الجنرال حسين: «إن خراب بلادنا كان على يد ثلاثة أشخاص وأتباعهم أعوان السوء، وهم محمود بن عياد وتلميذه نسيم شمامة ورئيسهم مصطفى خزندار».

ويعد مصطفى خزندار (1817-1878) مدرسة فريدة من نوعها في الفساد، وبالرغم من كونه مملوكا يونانيا فقد تقلد خطة وزير دار الخزنة (وزارة المالية) ثم صار يشغل منصب الوزير الأكبر واستمر فيها لمدة 33 سنة، مستغلا عنصر المصاهرة بزواجه من أخت الباي.

وقد كان مصطفى خزندار يدعي إسلامه ويمارس كل الشعائر المرتبطة بها، إلا أنه اتضح فيما بعد ضلوعه في تمويل الكنائس الأرثوذوكسية في اليونان من خزينة الدولة التونسية.[3]

ومن التهم التي طالته في ملف سلوكه، حصوله من كل خليفة أو قايد تتم تسميته على رشوة تعيين…

أما محمود بن عياد (1810-1880) فقد مكنته الأموال التي نهبها من خزينة الدولة وهرّبها إلى فرنسا عند فراره إليها من امتلاك نزل في Avenue Dalk وعمارتين في Rue Saint George، ويوجد إلى حدّ الآن نهج باسمه في باريس Rue Ben Ayed وكل ذلك هو محصول ما نهبه من أموال الخزينة التونسية وعملية التهريب.

عموما كان الفساد في منظومة الدولة متغلغلا بصفة ملحوظة، فقد كانت توجد عبارات دارجة وكثيرة الاستعمال لها علاقة بالفساد، كعبارة التهليج وتعني المحاباة، وكان هناك ما يسمى بالعوايد أي العادة بتقديم الرشوة في كل التعيينات. كما كانت توجد عبارة تتكرر في البلاط الحسيني وهي «زيّت المجنيق» ومعناها رشوة المسؤول لتيسير المعاملات…

ومن الأمور الخطيرة التي أحدثها الفساد هي ارتهان القرار السيادي التونسي للخارج، فقد قرر مصطفى خزندار مشاركة المملكة التونسية في حرب القرم سنة 1853، بين الجيش العثماني والجيش الروسي، بناءً على إملاءات تركية وفرنسية نظرا لعداوة تركيا وفرنسا لروسيا. ولهذا الغرض تمّ تجنيد 6600 جندي من أبناء العائلات التونسية الفقيرة وتم تركهم لسنة ونصف في ميناء حلق الوادي حتى أفلست الدولة في إعالتهم مما اضطرّها إلى الاقتراض بضمان صابة زيتون الساحل وصفاقس وتمور الجريد لسنة 1855 أي قبل سنة من حصادها، كل هذا من أجل إرسال الجنود التونسيين إلى حرب القرم، حيث تم وضعهم عند وصولهم في المقدمة Chair à    canonفمات أغلبهم نتيجة البرد والثلوج وحتى من نجا منهم أصيب بالطاعون.

وهكذ كان الفساد دائما وراء إفلاس خزينة الدولة، كما هو الحال مع محمود بن عياد الذي قام بسرقة أول بنك تأسس في تونس سنة 1848، ولكنه لم يكن لوحده إذ كان إلى جانبه تلميذه نسيم شمامة الذي هرب بدوره إلى إيطاليا وتوفي هناك سنة 1877.

ورغم استشراء الفساد في المملكة التونسية، فإن محاولات مقاومته عن طريق المؤسسات كانت موجودة من بينها إنشاء المجلس الأكبر المتركب من 60 عضوا معينين من قبل الباي والذي كان دوره رقابيا…

 كما جاء دستور 1861 بمجالس الجنايات والأحكام العرفية التي استمر عملها مدّة أربع سنوات حاولت فيها مقاومة الفساد كما هو ثابت بأرشيفها، إلا أن مصطفى خزندار تمكن من إبطال عملها وحلها بمناسبة ثورة علي بن غذاهم التي اندلعت سنة 1864 ضد حكم محمد الصادق باي، كما أبطل خزندار أيضا العمل بدستور 1861 الذي كان الأول من نوعه في البلدان العربية وكرس عديد المبادئ السياسية الهامة والرائدة في مجالات التفريق بين السلط والحريات وغيره… وبالتالي أعاد السلطة المطلقة غير مقيدة للباي…

والغريب في الأمر أن الفساد بعد الاحتلال سنة 1881 تجاوز التونسيين ليطال الموظفين الفرنسيين والمقيم العام نفسه بعد أن أصبحت رشوة التعيينات مزدوجة: رشوة للجهاز التونسي ورشوة للجهاز الفرنسي…

وكانت الصحف الهزلية مثل جحا والجحجوح والمضحك والسردوك، وهي صحف أسسها الوطنيون للتصدي للفساد عن طريق الصحافة الساخرة، تفضح ما يأتيه عمال الدولة من فساد ورشاوى بمختلف أنواعها، إذ وصل الأمر إلى حدّ تطليق النساء من أزواجهن بدون علمهن…

 وفي الأرشيف الوطني يمكن الاطّلاع على ملفات الفساد وذلك في السلسلة «أ» التي تحتوي على ملفات جميع الشيوخ والڨِياد في كامل تراب البلاد وفيها شكاوى وردود وعمليات تفقّد، مما يسمح بالقول إنّ تونس كانت في ذلك الوقت تعوم في بحر من الفساد…

وأخيرا، فقد عرفت تونس أيام قليلة بعد اعلان الاستقلال فتح العديد من ملفات الفساد من قبل محكمة الشعب ولئن كان بعضها كيديا فإن المحكمة في ملفات أخرى أثبتت تورطَ العديد من الوزراء والڨِياد في الفساد وإثراءَهم غير المشروع وامتلاكَهم لعقارات وثروات خارج البلاد كإيطاليا وفرنسا وسويسرا… ويمكن الإطلاع على ملفاتهم بأرشيف إدارة أملاك الدولة في رادس، فهذه المحاكمات ولئن كانت تفصيلية ومطولة إلا أنها اِرتبطت أيضا بتصفية حسابات سياسية مع وجوه من المخزن من قبل النظام الجديد بعد الاستقلال كما أن اللافت للانتباه أنه لم يقع التطرق البتّة إلى القيام بأية مراجعات أو اصلاحات تشريعية ومؤسساتية من شأنها ضرب الفساد كمنظومة…

أما خلال فترة حكم بن علي فإنّ الفساد قد أخذ منحى سياسة دولة كما يشير إليه تقرير لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد وهي لجنة أحدثت مباشرة بعد الثورة بمقتضى المرسوم عدد 7 لسنة 2011 مؤرخ في 8 فيفري 2011 وترأسها المرحوم العميد عبد الفتاح عمر، وكما تَدل على ذلك تسميتها، فقد عهد إليها بفتح ملفات الرشوة والفساد المتعلقة بفترة حكم بن علي والتي طالته هو شخصيا إلى جانب المقربين منه من أفراد عائلته أو وزرائه ومستشاريه ورجال الأعمال وغيرهم… وعليه كانت مهمة اللّجنة كما جاء بالمرسوم هي:

«التقصّي والكشف عن جرائم الفساد المالي والإداري التي اقترفها أو استفاد منها أيّ شخص ماديّ أو معنوي عمومي أو خاص أو مجموعة أشخاص بفعل موقعه في الدولة أو في الإدارة أو بفعل قرابته أو مصاهرته أو علاقة أخرى مهما كانت طبيعتها مع مسؤول أو مجموعة مسؤولين في الدولة خاصّة خلال الفترة الممتدّة من 07 نوفمبر 1987 إلى 14 جانفي 2011»…

صدر تقرير اللجنة في أكتوبر 2011 وجاء في ما يزيد عن الـ 500 صفحة تناول الجزء الأول منه والمخصص لأعمال التقصي خلاصة لأهم الاستنتاجات والأعمال الاستقرائية المتعلقة بملفات فساد النظام السابق استناد إلى آلية التعهد التلقائي أو العرائض التي وردت على اللجنة بالإضافة إلى جلسات الاستماع التي استدعت إليها  كبار مسؤولي الدولة ورجال الأعمال شهودا أو من ذوي الشبهة والضحايا… وقدم التقرير عرضا لأساليب الإثراء غير المشروع وأبرز المجالات التي انتشرت فيها ممارسات الرشوة والفساد والتي حصرتها اللجنة بالخصوص في الميدان العقاري والأراضي الفلاحية وأملاك الهياكل العمومية والصفقات العمومية واللزمات والمشاريع الكبرى، كما تناول التقرير بالعرض ملفات الفساد التي طالت مجالات أخرى كالخصخصة والقطاع السمعي البصري والمالي والبنكي والرخص الإدارية والديوانة والجباية والإدارة والانتدابات والبحث العلمي والتوجيه الجامعي والقضاء والمحاماة…

وأعلنت اللجنة في تقريرها عن تلقيها أكثر من عشرة آلاف ملف تمت دراسة ما يفوق الخمسة آلاف منها فيما أحالت على القضاء أكثر من 300 ملف انقسمت بين «عرائض لا تدخل ضمن اختصاص اللجنة، كما تضمّن عدد آخر إدعاءات مجردة لم يتم إثباتها، فضلا عن الملفات المتضمنة لوشايات وتصفية حسابات شخصية. ومن المهم القول إن عددا كبيرا من المسائل التي تضمّنتها عديد الملفات تم فضّها بمساعدات الإدارات المعنية، كما أن عددا من الممتلكات والأموال وقع استرجاعها…».

واللّافت للانتباه في تقرير اللجنة هو التباين والشبه الكبير بين أساليب وممارسات الفساد في مختلف العصور وتركيزها على مجالات تكاد تكون بعينها وغالبا ما تكون في علاقة بالمال العام مما يحيلنا الى نفس أوجه الفساد التي لازمت مؤسسات الدولة التونسية على مختلف العصور وكأن التاريخ، القديم أو المعاصر، يريد أن يخبرنا أن الفساد كان – ولم يزل-  ظاهرة راسخة في تونس خلال جميع الحقب وفي كل الأنظمة على اختلافها ولكن على درجات متفاوتة، كما تأكد أن الفساد عادة ما يحمي نفسه بمنظومة تشريعية ومؤسساتية تقيه من جميع الملاحقات وتجعل جهود مكافحته محدودة النتائج ولا تطال سوى القشور اذ عادة ما ارتبطت جهود مكافحته بالتركيز على محاسبة بعض الفاسدين بطريقة استعراضية و انتقائية…كما تأكد كذلك أن ممّا يزيد هذه الآفة انتشارا هو غياب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وتردّي الأوضاع المالية سواء نتيجة سياسات تسلطية كما كان الشأن قبل الثورة أو نتيجة ضعف أجهزة الدولة وتراخي قبضتها كما هو الحال بعد الثورة…ليبقى السؤال الحارق من أين نبدأ وأية جبهة نفتح لمواجهة هذه الآفة… ؟

… يتبع.


[1] نص مداخلة ألقاها بتاريخ 20 فيفري 2018 الأستاذ في التاريخ بجامعة صفاقس عبد الواحد المكني على منبر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تحت عنوان: «تاريخ مقاومة الفساد بالبلاد التونسية: مقاربة تاريخية»، بمناسبة اليوم الدراسي المنعقد بمدينة صفاقس: دور المربي في نشر ثقافة الحوكمة ومكافحة الفساد. https://rb.gy/ysvm8l.

[2] نفس المرجع السابق.

[3] نفس المرجع السابق.