أبرمت رئاسة الحكومة في الأيام الأخيرة سلسلة من الاتفاقيات مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وتحرّك هشام المشيشي ميدانيا لإنهاء إضرابات واعتصامات مزمنة. وهي خطوات بدا منها أنّ المشيشي يعبّد الطريق لوفاق مع اتحاد الشغل، ساعيا إلى إخماد بؤر التوتر الاجتماعي المنهكة للحكومة التي تخوض معركة أشبه بصراع “وجود” مع قصر قرطاج.
ومثّل إمضاء اتفاق 6 فيفري 2021 المنبثق عن لقاءات 5 زائد 5 بين الحكومة واتحاد الشغل حدثا يتضمّن 27 اتفاقا تهمّ 46 قطاعا. وهذه الاتفاقات الأصلية وُقّعت بين سنتي 2015 و2020 أي خلال عمل الحكومتين السابقين برئاسة حبيب الصيد ثم يوسف الشاهد.
ووصف حفيظ حفيظ، الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل المكلف بالتشريع، في تصريح لقناة “التاسعة”، الاتفاق بأنّه “اتفاق تاريخي هام وجدّي بإعلاء مكانة كبيرة للحوار الاجتماعي الذي تم إرساؤه”. وأضاف: “المشيشي كرّس مبدأ استمرارية الدولة”.
ومن النقاط المثيرة للاهتمام التي تضمنها اتفاق (5 زائد 5)، والتي تعكس مناخ الحوار الحكومي النقابي، وتمهّد لأفق العلاقة بين الطرفين، هي النقطة الخامسة التي ورد فيها “يلتزم الطرف النقابي بمواصلة الحوار البنّاء من أجلا تذليل صعوبات التنفيذ متى وجدت ودعم جهود الحكومة في ضمان استمرارية المرافق العمومية في إطار الاحترام التام للحق النقابي”.
وبمثل هذه العبارات دوّن محضر جلسة 9 فيفري 2021 التي جمعت الوزيرة المكلفة بالوظيفة العمومية حسناء بن سليمان والأمين العام المساعد منعم عميرة وكاتم عام جامعة الصحة عثمان الجلولي، وجاء فيه: “مواصلة لنهج الحوار بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل ورفعا لكل جوانب اللبس وإشكاليات التواصل تم عقد جلسة عمل وكان اللقاء مناسبة لتجديد العزم الراسخ على المضي في كل الإصلاحات ومنها وبصورة أساسية إصلاح قطاع الصحة. وبناء عليه تم الاتفاق على إفراد الأعوان العاملين بالقطاع العمومي للصحة بقانون أساسي خاص بهم. وبناء على هذا ترفع كافة الاحتجاجات بالقطاع الصحة”.
من معركة الصلاحيات إلى الاستقطاب الميداني
توجّهت حكومة المشيشي إلى إنهاء عدد من بؤر التوتر الاجتماعية منذ وقوعها في الخلاف مع رئاسة الجمهورية حول التحوير الوزاري الذي نال ثقة مجلس نواب الشعب. وتم يوم 7 فيفري الحالي الاتفاق مع جامعة القيمين وإنهاء الإضراب الذي استمر منذ نوفمبر الماضي.
وزار رئيس الحكومة مساء 11 فيفري 2021 الدكاترة الباحثين العاطلين عن العمل والمعتصمين منذ أشهر في مقر وزارة التعليم العالي. وأفضى الحوار مع المعتصمين إلى إنهاء تحركهم، بإعلان التوصل إلى حل عملي وقابل للتطبيق وذلك عبر وضع خطة تمتد 3 سنوات لانتداب 2400 دكتور باحث في إطار المدرسين الجامعيين والوظيفة العمومية والقطاع العام.
وبهذا الاتفاق لم تبق رئاسة الحكومة لرئيس الجمهورية دورا في هذا الملف، حيث كان الرئيس قيس سعيّد قد زار المعتصمين يوم 16 جانفي الماضي، و”أعرب عن الاستعداد لاستقبال وفد ممثل عن المعتصمين للنظر في مقترحاتهم وتصوراتهم للحلول الممكنة وبحث سبل تطبيقها”، وفق ما ورد في بلاغ لرئاسة الجمهورية.
وتظهر سلسلة من أنشطة هشام المشيشي الميدانية إصرارا منه على إظهار قدرته على ملء الفراغ والجدارة بموقعه التنفيذي، مع السعي إلى كسب شرائح اجتماعية مختلفة. ففي اليوم الذي كان رئيس الجمهورية يتجوّل في شارع الحبيب بورقيبة، كان هشام المشيشي قد زار مبيت المعهد الثانوي ابن سينا بمنزل بورقيبة لمعاينة وضعية التلاميذ في غياب خدمات الإدارة والإعاشة، وسارع المشيشي إلى الالتحاق بوزارة الداخلية باعتباره وزيرا بالنيابة للقاء رئيس الجمهورية، الذي فقد من هذه الوزارة رجلا مقربا منه، وزاره رأس السنة في غياب رئيس الحكومة.
ويذكر أنّ هشام المشيشي سارع بعد عودته من باريس إلى إقالة وزير داخليته توفيق شرف الدين، ثم التحق بالوزارة ونشرت رئاسة الحكومة على صفحتها الرسمية صورا تحاكي مشاهد زيارة رئيس الجمهورية في أروقة الوزارة وفي قاعة العمليات المركزية.
المشيشي جالس أيضا، في زيّ شبابي، ممثلين عن المجتمع المدني والجمعية التونسية للإدمان بالمقهى الثقافي بمسرح نجمة الشمال بالعاصمة. وتمحور اللقاء حول القانون 52 الخاص بالمخدرات.
وفي زيارة يوم 17 فيفري 2021 إلى المعهد العالي للدراسات التكنولوجية بقليبية حرص رئيس الحكومة على الظهور في صورة لقاء مفتوح بين الطلبة في ساحة المؤسسة، وأعلن بالمناسبة عن إجراء يهمّ عموم الطلبة وذلك بالترفيع في نسبة الطلبة المتمتعين بمنحة إلى 50 % من مجموع الطلبة المرسمين بمؤسسات التعليم العالي، انطلاقا من السنة الجامعية القادمة.
الاستقرار الحكومي بأي ثمن؟
ما إن قطع هشام المشيشي خطوات في طريق تحقيق مكاسب لتوسيع الوفاق من حوله، إضافة إلى الحزام البرلماني الداعم، حتى اندلعت شرار توتر جديد في تطاوين وقد سارع إلى إطفائها بتأكيد الوفد الحكومي المفاوض التزام الحكومة بتعهداتها، وكذلك بقرار إعفاء وزيرة الصناعة التي راج على هامش التحركات الأخيرة في تطاوين أنّها عطلت تنفيذ الاتفاقية. وأردفت هذه الأزمة واقعة العقلة التنفيذية على حسابات الخطوط التونسية، ما دفع الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تصعيد اللهجة، في خطاب تعبوي ألقاه الأمين العام نور الدين الطبوبي وسط منظوريه في مقر الشركة. لكنّ الطبوبي لبّى بعد ساعات دعوة الجلوس إلى رئيس الحكومة لبحث ملف الخطوط التونسية، وكان الاتحاد قد شارك أيضا يوم 15 فيفري 2021 في جلسة عمل حول وضعية شركة فسفاط قفصة، وصرّح الطبوبي إثر الجلسة “أن عودة نشاط المؤسسة وديمومتها والرفع من قدراتها الإنتاجية أصبح ضرورة قصوى لحل هذه المشاكل وتنقية المناخ الاجتماعي”، وفق ما نقلته الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة بموقع فايسبوك.
وهكذا صار قصر الحكومة بالقصبة وجهة جاذبة للحوارات السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية. فقد اجتمع هشام مشيشي يوم 10 فيفري بمجموعة من أساتذة القانون الدستوري وعمداء كلّيات الحقوق قصد الاستئناس بمقترحاتهم وآرائهم لتجاوز تعطيل تفعيل التحوير الوزاري والذّي تسبّب في تعطّل مصالح الدولة. واستقبل رئيس الحكومة، عبدَ المجيد الزار رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، ثم سمير ماجول رئيس اتحاد الأعراف.
وهو ما جعل لقاءات الأسابيع الأخيرة تظهر هشام المشيشي رغم حقيبة وزارة الداخلية، المضافة، منكبّا على الملفات العالقة ومتطلعا إلى المستقبل فاتحا لجسور التواصل مع أوسع الشركاء. ويكون بذلك على خلاف ما وصف به أمين عام اتحاد الشغل، رئيس الجمهورية قيس سعيد بكونه “يعيش في قصر عاجي في خيال آخر”. ووصف الإشكال الدستوري بخصوص التحوير الوزاري بـ”المهزلة”.
لكن المساحات التي يكسبها المشيشي ميدانيا، وربّما مؤقتا، لا يُعرف مدى قدرة الحكومة على الوفاء بوعودها. وقد كشف وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، في تصريح صحفي يوم 17 فيفري الحالي، أنّ الكلفة الإجمالية للانعكاسات المالية لبروتوكول الاتفاق بين رئاسة الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل المنبثق عن لقاءات 5 زائد خمسة تُقدَّرُ بـ 800 مليون دينار.
ويضاف إلى هذه الحزمة المالية كلفة الأمر الذي أمضاه رئيس الحكومة يوم 09 فيفري والمتعلّق بالترفيع في السقف السنوي لاسترجاع مصاريف الأمراض العادية بنسبة 50%، بمفعول رجعي بداية من جانفي الماضي. وهي تعهدات تحتاج، للوفاء بها، عودة حقيقية لآلة العمل والإنتاج المعطلة في كثير من المواقع الحيوية، وهو ما يبدو أنّ حكومة المشيشي تسعى لتحقيقه، ودون ذلك فإنّها ستعصف بما تبقّى من ثقة في الدولة، وسيكون ذلك هو الثمن غير المتوقع لمحاولة الخروج من الأزمة السياسية.
لطفي حيدوري