ارتبط شهر فيفري برمزية طلابية خاصة في ذاكرة نشطاء الحركة الطلابية التونسية. فقد شهد يوم 5 فيفري 1972 حملة قمعية شرسة ضدّ الطلبة الذين حاولوا إنجاز المؤتمر 18 خارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس، معترضين على نتائج مؤتمر قربة في أوت 1971 الذي أفرز مكتبا تنفيذيا “منصّبا” يهيمن عليه الطلبة الدستوريون.

ولئن لم ينجح عقد المؤتمر الاستثنائي الذي عُطّل بقوة التدخّل الأمني يوم 5 فيفري، فإنّ الطلبة لم يتعاملوا مع القيادة المنصّبة وظلّ التمثيل النقابي حتى ماي 1988 ضمن هياكل مؤقتة.

وفي هذا الشهر أيضا، ذكرى حركة فيفري 1990، عندما اتخذت السلطة عقوبة التجنيد القسري في حق مئات الطلبة، أغلبهم من نشطاء الاتحاد العام التونسي للطلبة، من أجل إخماد التحركات التي قادتها المنظمة في الأجزاء الجامعية.

هذان الحدثان الرمزيان في ذاكرة الطلبة الأحياء، ليسا الملحمتين الفارقتين في تاريخ الحركة الطلابية التونسية، فقد سبق الطلبة الزيتونيون سنة 1910 إلى شنّ إضراب بالجامع الأعظم لفرض مطلبهم بإصلاح التعليم الزيتوني. وكان وقع هذا الإضراب وتأثيره كبيرين، فلأوّل مرة ينفّذ تونسيون إضرابا.

كما شهد تاريخ 15 مارس 1954 بجامعة الزيتونة سقوط أوّل شهداء الحركة الطلابية التونسية (محمد الدهماني ومحمد المرزوقي) بعد إطلاق الرصاص على الطلبة من قبل القوات الاستعمارية في ساحة القصبة وفي صحن جامع الزيتونة، قمعا لمظاهرة في ساحة القصبة وللتحركات التي وقعت في فروع الزيتونة.

خمسة أزمنة

لقد مثلت بعض التحركات الكبرى في الجامعة التونسية، علامة على تدشين مرحلة أو نهايتها في مسار الحركة الطلابية. وكان ذلك من الدوافع المنهجية التي استند إليها المؤرخ محمد ضيف الله، أستاذ التعليم العالي بجامعة منوبة، لتوثيق تاريخ الحركة الطلابية، وفق “أزمنة”، في كتابه الصادر مؤخرا عن المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر “أزمنة الحركة الطلابية التونسية 1910-1991”.

ويغطّي الكتاب فترة 81 عاما، قسّمها المؤلف 5 أزمنة:

1- الحركة الطلابية الزيتونية بين 1910 و1956.

2- الطلبة التونسيون بالجامعات الفرنسية قبل الاستقلال.

3- الاتحاد العام لطلبة تونس من التأسيس إلى مؤتمر قربة 1952-1971

4- من حركة فيفري 1972 إلى مؤتمر الثامن عشر الخارق للعادة 1988.

5- الفترة من 1988 إلى 1991 وتنتهي بحلّ الاتحاد العام التونسي للطلبة.

ويكشف الباحث خلال هذه المسارات مدى مساهمة الطلبة التونسيين في النضال الوطني ضد الاستعمار ومدى استفادة الحركة الوطنية منهم، ثم دورهم في الدولة الوطنية وفي نشوء مختلف التيارات السياسية.

سدّ الفراغ التوثيقي

إنّ أهم صعوبات البحث في تاريخ الحركة الطلابية التونسية، وفق ما عاينه المؤرخ محمد ضيف الله، هي غياب أرشيفات التنظيمات الطلابية، لعدة أسباب منها النشاط في ظروف أمنية صعبة دفعت إلى إتلاف وثائق حتى لا تستخدم حجّة إدانة. ويُرجع الكاتب ضعف التوثيق إلى اهتمام الشباب بالعمل الميداني أكثر من العناية بالتوثيق أو الأرشفة. ويشير ضيف الله إلى أنّه لا يتوفر اليوم بالأرشيف الوطني التونسي إلاّ قسم من أرشيف الاتحاد العام لطلبة تونس منذ مؤتمره المنعقد سنة 1988، بينما لا يُعرف مصير الأرشيف السابق لذلك التاريخ. كما لم تصل، وقد لا تصل أبدا، حسب تعبير ضيف الله، أرشيفات المنظمات الطلابية الأخرى، سواء منها جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين أو لجنة صوت الطالب الزيتوني أو جمعية الطلبة التونسيين أو الاتحاد العام التونسي للطلبة. ويتساءل الباحث: “متى يمكن لوزارة الداخلية أن تتيح الاطلاع على الوثائق التي تهمّ التحركات والتنظيمات الطلابية بعد الاستقلال؟”.

ولمعالجة الفراغ التوثيقي، أدرج المؤرخ محمد ضيف الله في كتابه مختارات من وثائق متعددة المصادر كتب بعضها طلبة أو صدرت عن متعاملين مع الطلبة من إداريين أو إعلاميين، وهي مراسلات وبيانات ولوائح وتقارير ومقالات وحوارات صحفية ونصوص قانونية.

الحركة الطلابية رافد النخبة

يطّلع القارئ من خلال ملحق “كشاف الأعلام” بالكتاب، على قائمة طويلة من الفاعلين الذين لهم علاقة بالقطاع الطلابي، بما يدلّ على أنّ الحركة الطلابية مثلت العمود الفقري للتاريخ النقابي والسياسي المعاصر في تونس، من الحبيب بورقيبة والهادي نويرة والباجي قائد السبسي والحبيب ثامر وعلي البلهوان والطاهر ابن عاشور والفاضل ابن عاشور ونور الدين بن خذر وأحمد بن عثمان… إلى شكري بلعيد وعبد اللطيف المكي.

ويظهر الكتاب أنّ هناك علاقة ثابتة بين الطلبة والسياسية سواء كان ذلك في العهد الاستعماري أو في دولة الاستقلال. وكان للفترة الطلابية دور في نشوء النخبة السياسية، فالكثير ممن مرّوا بجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين قد تهيؤوا لقيادة الحركة الوطنية ثم الدولة الوطنية. وبعد الاستقلال كانت قيادات الاتحاد العام لطلبة تونس بمجرد مغادرتها للجامعة تجد أماكنها في انتظارها في مختلف الإدارات ومنهم من يصل كرسي الوزارة والسفارة، وغيرها من المناصب العليا في الدولة والحزب الحاكم، ولم يقف الأمر عندهم بل شمل حتى عناصر كانت من أشدّ معارضي السلطة خلال مرورها بالجامعة بين الستينات والثمانينات، وفتحت لهم أبواب لمواقع قيادية في الدولة وأجهزتها في التسعينات وبعدها. ثم برز في الساحة السياسية بعد 2011 جيل الثمانينات من القيادات الطلابية من مختلف الاتجاهات السياسية.

ويؤكّد محمد ضيف الله أنّ الحركة الطلابية التونسية كانت من أنشط الحركات الطلابية طيلة القرن العشرين، بفضل رافديها المتمثلين في الطلبة الزيتونيين بتونس، من جهة، ومواطنيهم الدارسين بالجامعات الفرنسية من جهة أخرى. ورغم اختلاف التكوين لكل منهما واختلاف أصولهم الاجتماعية، فقد جمع بينهما الاهتمام بملف التعليم والنضال ضد الاستعمار، إلاّ أنّهما قد اختلفا كذلك من حيث النخبة التي تولدت عنهما، ففي حين ظهرت من بين صفوف الرافد الزيتوني النخبة الثقافية، ظهرت من بين طلبة التعليم العصري النخبة السياسية التي استكملت قيادة الحركة الوطنية ثم تولت قيادة الدولة الوطنية. ولم تتراجع الحركة الطلابية عن هذا الدور في تكوين النخبة في ظل الاستقلال، سواء لفائدة السلطة في البداية أو بعد ذلك لفائدة معارضيها بمختلف تياراتهم السياسية.

ويلاحظ الباحث أنّ وجود الرافدين الزيتوني والمدرسي لا يعني أنّ الزيتونيين يمثلون المحافظة لمجرد دراستهم بجامع الزيتونة، وأنّ الرافد المدرسي حداثي لمجرد دراسته بالجامعات الفرنسية، فالطاهر الحداد الذي تخرج من جامع الزيتونة ورفع لواء التجديد الاجتماعي والديني، ولم تكن نضالات الطلبة الزيتونيين ذات منحى محافظ حيث كانوا يطالبون بإدخال العلوم العصرية وبناء مقرات خارج الجامع، بل إنّ الحركة الطلابية كانت إحدى علامات التحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، من خلال استعمال أشكال نضالية حديثة، كالإضراب وما صاحبه من عرائض ومطالب ومظاهرات واجتماعات عامة، غير مسبوقة على الساحة الوطنية.

ومع زوال الثنائية زيتوني/ مدرسي بعد الاستقلال مع توحيد التعليم، ولدت “ثنائية ذات طابع سياسي وإيديولوجي، طرفاها الطلبة الدستوريون واليسار الماركسي إلى أن تحققت السيطرة التامة لليسار في مطلع التسعينات، لم تستمر طويلا، إذ تولدت ثنائية جديدة منذ أواخر السبعينات وطيلة الثمانينات طرفاها الإسلاميون واليساريون”.

أفول الحركة الطلابية

وضع المؤرخ محمد ضيف الله حدّا لبحثه في “أزمنة الحركة الطلابية” سنة 1991، ويفسّر ذلك بحدث استثنائي في الجامعة وهو مجزرة 8 ماي 1991 بكلية العلوم بتونس باستشهاد طالبين، ثم حل الاتحاد العام التونسي للطلبة الذي كان يقود التحركات في تلك السنة، وكان ما بعد تلك التطورات عودة الطلبة الدستوريين إلى الساحة الطلابية بعد غياب حوالي عقدين من الزمن، وقد استطاعوا أن يبسطوا هيمنتهم حتى ثورة 2011، ولم يستطع الاتحاد العام لطلبة تونس أن يسدّ الفراغ الذي تركه الاتحاد المنافس كما تجاهلته السلطة ولم تعترف به عليا ممثلا لمعالجة مشاكل الطلبة، وتمت مضايقة عناصره القيادية وافتعال القضايا ضدّهم ومحاصرة أنشطته ومنعه من عقد بعض مؤتمراته، ضمن محاولات ابتزاز للقبول بإسناد مقاعد قيادية لطلبة الحزب الحاكم.

لكنّ تفسير التراجع الذي شهده الاتحاد العام لطلبة تونس، لا يمكن تفسيره فقط بالوضع المحلّي، إذ يشدّد محمد ضيف الله على أنّه “يجب أن لا نغفل أنّ الحركات الطلابية في بلدان شتّى من العالم شهدت تراجعا بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الكتلة الاشتراكية، كما أثرت العولمة بقيمها على اهتمامات الشباب ومن بينهم الطلبة، بما أعطى الأولوية لقيم الفردانية على حساب الغيرية وهموم الجماعة. والنتيجة أنّ الاتحاد العام لطلبة تونس لم يتمكن من استغلال انفراده بالساحة الطلابية خلال عقدين كاملين، وتقلصت خلال ذلك الحركة الطلابية إلى ما دون شروطها الدنيا، وتراجع دورها في تخريج الإطارات مثلما كان عليه الحال في العقود الأولى من الاستقلال، هو ما من شأنه أن يؤثر سلبا في مستقبل البلاد لعقود طويلة”.

يجدر التذكير أنّ الكتاب الجديد لمحمد ضيف الله، يمكن اعتباره تكملة لكتابه الصادر سنة 2014 “تراجم الناشطين في الحركة الطلابية التونسية 1910-1991” الذي هو بمثابة معجم أعلام النقابيين والسياسيين في تونس المعاصرة. والكاتب متخصصّ في تاريخ الحركة الطلابية والشبابية التونسية، وله مؤلفات سابقة مثل: “لجنة صوت الطالب الزيتوني 1950-1956″، سنة 1988، بالاشتراك مع سالم الأبيض، و”الحركة الطالبية التونسية 1927-1939″، سنة 1999، و”بحوث حول الطلبة التونسيين بين الخمسينات والسبعينات”، سنة 2003، و”الطلبة التونسيون ومخاضات الوطن في منتصف القرن العشرين”، سنة 2016، و”أواخر الزيتونيين”، سنة 2016، و”الطلبة العرب التقدميون الوحدويون”، سنة 2017.

الكتاب: أزمنة الحركة الطلابية التونسية 1910-1991.

الكاتب: محمد ضيف الله.

الناشر: المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، تونس 2020.

عدد الصفحات: 664 صفحة.

لطفي الحيدوري