صحيفة الأحد – Jdd Tunisie

لنحكي عن الإرادة السياسية…

بقلم العميد: شوقي الطبيب

«هل شهدت البلاد التّونسيّة فعلا إرادة سياسية حقيقية صادقة في مكافحة الفساد؟». كثيرا ما يُطرح هذا الصّنف من الأسئلة المحرجة والمحيّرة على حدّ سواء في علاقة بهذا الملف الحارق… ولعلّني لا أخفي سرّا أنّه كانت تتملكني شخصيا حالة من الارتباك كلما دُعيت للإجابة عنه سواء في إطار لقاء إعلامي أو ضمن حلقة نقاش تجمعني بفاعلين سياسيين أو نشطاء من المجتمع المدني… ومردّ هذه الحيرة مزيج من الشّعور بالغرابة والتناقض في الآن نفسه، إذ إنّه سؤال يثير جانبا براغماتيّا وآخر مبدئيّا في الآن نفسه. فبحكم اضطلاعي بمسؤوليّة رئيس «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد»، كنت محمولا علي الإصداع بالحقائق، جنبا إلى جنب مع الالتزام بواجب التحفظ… فضلا عن أنّني كنت على صلة مباشرة وتكاد تكون يومية بهؤلاء «الفاعلين السياسيّين» الذين يمسكون أو يختزلون ما يُطلق عليه بـ«الإرادة السياسية»… واستئناسا بعديد التجارب المقارنة الناجحة، اتبعتُ منهجا يراوح بين الضغط الإيجابي على هؤلاء الفاعلين، عبر التشهير ببعض الممارسات وإحالة الملفات على القضاء… وبين محاولة دفعهم في اتجاه القيام بإصلاحات تشريعية ومؤسّسيَّة، تتطلب بناء جسور التعاون والثقة بينهم وبين الهيئة… غير أنّ العلاقات كانت تحكمها هذه المعادلة الصعبة وتربطها خيوط أوهن من خيوط بيت العنكبوت… إلاّ أنّها معادلة نجحت إلى حد كبير في تحقيق الهدف المرجوّ منها وفي مراكمة نجاحات مهمّة، من قبيل وضع الاستراتيجية الوطنية للحَوْكمة ومكافحة الفساد وإصدار تشريعات ذات أهمية بالغة على غرار القانون الأساسي المنظم للقطب القضائي الاقتصادي والمالي، وقانون حماية المبلِّغين، وقانون النفاذ إلى المعلومة، والقانون الأساسي لمحكمة المحاسبات، وقانون التصريح بالمصالح والمكاسب ومكافحة الإثراء غير الشرعي وتضارب المصالح… بل إنّ ملف مكافحة الفساد غَدَا ضمن أولويّات مشاغل التونسيين، ومعيارا للتقييم، ومقياسا للحسم أيضا بمناسبة إجراء الانتخابات أو إصدار التسميات والتعيينات… ثمّ إن بلادنا التي كانت تقبع سنة 2016 في المرتبة 78 ضمن ترتيب الدول، وفق مؤشر مكافحة الفساد حسب منظمة الشفافية الدولية[1]، قفزت سنة 2020 إلى المرتبة 69 عالميا من مجموع 180 دولة، واحتلت المرتبة الأولى مغاربيا، والسادسة عربيا…[2] وجميعها مكاسب أو خطوات إيجابية ما كان بالإمكان تحقيقها لولا إذعان أصحاب القرار السياسي لهذه الاستراتيجيّة أوتبنّيهم إيّاها أو قبولهم لها…

غير أنّ عديد المؤشرات والدلالات قد استمرت ولا تزال قائمة، لتذكّرنا من حين إلى آخر بأنّ هذه الإرادة السياسية تبقى هشة أو معدومة في مجالات عديدة وتُحجِم أحيانا عن المضيّ قُدُما والنّفاذ إلى «مناطق الخطوط الحمراء» من قبيل إرساء الهيئة الدستورية للحوكمة ومكافحة الفساد، وتمويل الأحزاب والجمعيات، وإصلاح العدالة أو الإعلام…

وبناء على ما تقدّم، وبالعودة إلى سؤالنا المنطلَق حول وجود إرادة سياسية صادقة وخالصة في مكافحة الفساد من عدمه، كنت في بداية مشوار رئاستي للهيئة أعلن أنه «لا توجد إرادة سياسية لمحاربة الفساد وأننا سائرون في اتجاه دولة المافيا»[3]… ولعلّ مبعث هذه التصريحات ما كنت أعاينه من ممارسات وأطَّلع عليه من وثائق تؤكد الحجم الخطير لتغلغل الفساد، خصوصا صلب مفاصل الدولة والمجتمع… وقيام منظومته من جديد بنفس الأشكال والوسائل التي كانت عليها قبل اندلاع شرارة الثورة، مع مجرد تغيير للأسماء والواجهات… ثم إنّه كان لزاما عليَّ بعد تحقيق عديد التغييرات والإنجازات المشار إليها آنفا، أن أميل نحو تعديل الموقف، في اتجاه القول إنَّه «لا توجد إرادة سياسية حاسمة وقاطعة في مكافحة الفساد»… وذلك بحكم أنَّ إنكار أهمية ما تحقق من تقدُّم قد ينمُّ عن عقلية عدمية، هي آخر ما نحتاجه في مثل هذه الظرفية. غير أن الحسم والقطع مع منظومة الفساد هو المنشود الذي لا يزال غير موجود…

وللتدليل على ذلك، يكفينا الاطلاع على تجارب عديد الدول التي عانت مثلنا من منظومة فساد مشابهة، وتمكنت من تحقيق نجاحات في زمن قياسي مثل أندونيسيا أو الأردن أو سلطنة عُمان… فلقد توصَّل الدارسون والخبراء الذين تناولوا بالدرس هذه التجارب وغيرها إلى أنّه لا يكفي إعلان النوايا أو تكوين الهيئات والهياكل أو صياغة النصوص القانونية ومدوّنات السلوك، أو وضع الاستراتيجيات وخطط العمل…على أهميتها الكبيرة، من أجل ترسيخ الحوكمة ومحاربة الفساد، بل إنّ ذلك يتطلب أيضا التعاون والتشارك والتشاور والمتابعة والرقابة والتواصل بين مختلف الأطراف الفاعلة وبالأخص القائمين على السلط التشريعية والتنفيذية…

ولقد تناولت عديد التقارير بالتحليل غياب أو ضعف هذه الإرادة السياسية في تونس ما بعد الثورة، ولعل أبرزها  التقرير الصادر في أكتوبر 2017 عن «مؤسسة كارينڨي للسلام الدولي» تحت عنوان: «عدوى الفساد في تونس: المرحلة الانتقالية في خطر»… وقد نبَّه محررا التقرير[4]  إلى المخاطر التي تُحدق بالتجربة الديمقراطية الناشئة في تونس نتيجة تفشي الفساد، منبِّهَيْن بالخصوص إلى المضاعفات السياسية التي قد تنتج عن ذلك، من قبيل التأثيرات السلبية على سمعة البلاد دوليا، وضرب ثقة المواطنين في حكومتهم[5]، هذا بالإضافة إلى المضاعفات الأمنية الخطِرة من خلال توفير الفرص لمهربي الأسلحة والمخدرات والاتجار بالبشر لإدخال سلع بطريقة غير قانونية إلى البلاد…

وغالبا ما يتم تحميل النخب السياسية، لا سيّما الحاكمة، مسؤولية انتعاش الفساد السياسي والاقتصادي والفراغ التشريعي وتراخي الدور الرقابي، خصوصا أنّ عديد المؤشرات والدلائل تثبت غياب هذه الإرادة السياسية المنشودة وذلك من خلال المؤشرات الأربعة التالية، وهي بالخصوص:

 وكان لزاما أن تُنتظر المصادقة على «الاستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد» في 9 ديسمبر 2016، ليتم إدراج تفعيل منظومة الـ  TUNEPS ضمن الخطة العملية للإستراتيجية لسنوات 2017-2020 وأن يُنتزَع التزامُ الحكومة بإصدار الأمر المتعلق بإلزامية اعتماد الإجراءات الإلكترونية لإبرام الصفقات العمومية عبر منظومة الشراء العمومي عن بعد. وهذا ما تم بمقتضى الأمر الحكومي عدد 416 لسنة 2018، والذي أقر هذه الوجوبية بداية من غرة سبتمبر 2019…

وفي المحصّلة، لنا أن نتخيل ما فوّتته الدولة التونسية على نفسها من ربح وما كانت ستتجنبه من خسائر مالية تقدّر بآلاف المليارات لو تم فرض إجبارية هذه المنظومة منذ سنة 2014، والحال أن الجميع يقرّ بأن أكبر مصدر للفساد في بلدنا يكمن في الشراء العمومي الذي يكلف خزينة الدولة سنويا ما لا يقل عن ألفي مليار من الخسائر نتيجة غياب الحوكمة والفساد[7]

والمهم في الأمر، وكلّ ما أستطيع أن أجزم به، هو أن السيد الوزير لم يكن يمثّل أبدا استثناء للقاعِدة…

يتبع…


[1] https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2021/01/28/cpi-corruption-transparency-2020

بعد الإمارات العربيّة المتّحدة، ودولة قطر، وسلطنة عُمان، والمملكة العربيّة السعودية والمملكة الأردنيّة… [2]

[3]www.shorturl.at/vBI28

[4] سارة يركيس ومروان المعشر  https://rb.gy/clw25k

[5] أورد التقرير أن ثقة التونسيين في الحكومة تهاوت من 62 بالمائة سنة 2011 إلى 16 بالمائة فقط سنة 2014

[6]  https://bit.ly/3b35hkO

[7]  حسب تقارير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لسنتي 2016 و2017

الخروج من نسخة الهاتف المحمول