بقلم العميد: عبد الستار بن موسى
/I الأسباب العميقة تكمن في الدستور وفي القانون
إن المرحلة الانتقالية التي تنجم عن أي ثورة في العالم تتسم بالنجاحات والإخفاقات ويخطئ من يحمل الثورة تلك الإخفاقات فالثورة نقطة فاصلة في تاريخ الشعوب تحمل رسالة فكرية وثقافية وسياسية واضحة . إن الثورة التونسية اندلعت ضد الاستبداد والتهميش والفساد ومن أجل الحرية والكرامة ، أطاحت برأس النظام وأطلقت الحرية وهي ليست مسؤولة عمَا جد بعد ذلك من أحداث وإخفاقات.
إن المتأمل في تاريخ الشعوب يتضَح له جليَا أن المجتمعات كثيرا ما تخرج منهكة من الثورات فتتوالى الأزمات السياسية و الأمنية وتتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية .
فرنسا على سبيل المثال عرفت ثورة 1789 الشهيرة وشهدت فترة انتقالية عصبية اتسمت بالتطاحن الشديد بين مؤيدي الثورة وخصومها وبين رجال الدين والكنيسة من جهة وناشطي حقوق الإنسان والأحزاب السياسية من جهة أخرى وحدثت عدة اغتيالات وعدة محاكمات أدت إلى كثير من الإعدامات ثم أن المسار السياسي شهد انتكاسات عميقة فعادت إمبراطورية بونابرت ثم الملكية مرتين .
إذا قيمناها من خلال أحداث تلك الفترة سنقول أن الثورة فشلت فشلا ذريعا لأن المخرجات التي حصلت بعد ذلك بينت بأن الثورة الفرنسية انتصرت وبأن الديمقراطية تجذرت ولو بعد قرن. لا يمكن إذا تقييم الثورة والحكم عليها بعد عشر سنوات إنما يمكن تقييم المرحلة الانتقالية الحالية قصد الوقوف على الأخطاء في الإبَان وإصلاحها قبل فوات الأوان
يجمع الملاحظون بأن الانتقال الديمقراطي في بلادنا يسير بخطى متعثرة ومرتبكة خاصة في مجال الحقوق المدنية والسياسية وهو ما سنراه في هذا المقال أما في المجال الاقتصادي و الاجتماعي فإنَ المسيرة أكثر تعثرا وارتباكا وهو ما سنراه في مقال قادم . إن التعثر في مجال الحقوق السياسية والمدنية يجد أسبابه العميقة في الإطار الدستوري والقانوني وهو ما سنتعرض له في هذا المقال كما يجد أسبابه أيضا في الممارسة السياسية العقيمة
- الإطار الدستوري إيجابياته وسلبياته
إن الدستور التونسي الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي في 26 جانفي 2014 يعتبر أول دستور تمت صياغته من قبل مجلس منتخب ديمقراطيا في العالم العربي
ففي مجال الحقوق والحريات وبفضل الحراك الثوري المتواصل وضغط المجتمع المدني ونضال الأحزاب الحداثية والحوار الوطني تضمَن الباب الأول من الدستور عدة مبادئ تعتبر أساسية بالنسبة للديمقراطية من بينها مسألة الدولة المدنية التي تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون وهو ما تضمنه الفصل الأول الذي لا يجوز تعديله كما نصَ الفصل الثالث من الدستور على أنَ الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات أما الفصل السادس فقد كفل حرية المعتقد والضمير . وهي أول مادة دستورية من نوعها في العالمين العربي والإسلامي .
أما الفصل 20 فقد نص على أن المعاهدات الموافق عليها من قبل المجلس النيابي والمصادق عليها أعلى من القانون وأدنى من الدستور .
أما الباب الثاني من الدَستور فقد ضمن جلَ الحقوق والحريات في بعدها الكوني والشمولي وتضمن الفصل 49 بأنه لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في الدستور. لقد كانت المسودات الأولى من الدستور يشوبها لبس مسَ من الحقوق ومن علوية القانون الدولي والإنساني وتكرِيس للوضعية الدونية للمرأة . إن المسودة الأولى الصادرة في 8 أوت 2012 تجرم الاعتداء على المقدسات وهو ما أثار غضب نشطاء حقوق الإنسان على النطاق المحلي والدَولي .
لقد أثارت قضية المرأة وتحديدا الفصل 28 من المسودة الأولى الذي جعل من المرأة مكملة للرجل جدلا كبيرا ورفضا واسعا من قبل القوى الديمقراطية ونشطاء حقوق الإنسان
إلاَ انه بفضل ضغط المسيرات التي قادتها النساء بمساعدة الحقوقيين والنقابيين ونشطاء المجتمع المدني والسياسي وبفضل الضغوطات التي مارسها الحوار الوطني تضمن الفصل 46 من الدستور الجديد التزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة والعمل على دعمها وتطويرها وضمانها لتكافؤ الفرض بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات وسعيها إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة واتخاذها لكل التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد َ المرأة وهي أول مادة من نوعها في العالم العربي كما أن الفصل 74 نص على حق كل ناخب تونسي سواء كان ذكرا أو أنثى في الترشح للانتخابات الرئاسية في حين أن ألمسودات الأولى كانت تحصر الترشح للرئاسية في الناخبين الذكور .
لقد ضمن الفصل 31 من الدستور حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر ونصَ على أنه لا يجوز ممارسة مسبقة على هذه الحريات كما ضمن الفصل 42 الحق في الثقافة والإبداع أما الباب الخامس من الدستور فقد خُصص للسلطة القضائية ونصَ الفصل 102 على أن َ القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات وأن القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه غير القانون وأرسى الفصل 118 المحكمة الدستورية إلا أنها تضمَ 12 عضوا وهو عدد مضخَم بالمقارنة مع المحكمة الدستورية بفرنسا التي تضم فقط تسعة أعضاء كما أن طريقة تسميتهم تحد من استقلالية المحكمة الدستورية كما أحدث الدستور الهيئات الدستورية المستقلة وهي : هيئة الانتخابات وهيئة الاتصال السمعي والبصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد . كما تم الإقرار صلب الدستور بالمعارضة كعنصر أساسي في النظام السياسي ( الفصل 60)، تسند لها وجوبا رئاسة اللجنة المكلفة بالمالية وخطة مقرر باللجنة المكلفة بالعلاقات الخارجية كما لها الحق في تكوين لجنة تحقيق كل سنة وترؤسها .
هذه إيجابيات عديدة إلا أن السلبيات التي تضمنها الدستور في مجال الحقوق والحريات عديدة فالدستور التونسي أِشتمل على 249 فصل وجاء مطولا ومشتملا على مصطلحات فضفاضة وعلى مبادئ متناقضة وتفاصيل متعددة والشيطان يكمن في التفاصيل ، بخلاف دستور الولايات المتحدة الأمريكية مثلا الذي أِشتمل على 7 فصول فقط .
إن المفاوضات بين الأحزاب السياسية أفرزت إشكالات وتناقضات في العديد من مواد الدستور وهي مرآة للتناقضات داخل المجتمع التونسي وأدت إلى توافقات يشوبها اللبس والغموض فعديد المواد في الدستور تشتمل على تناقضات تقبل تأويلات متعددة فالفصل 6 من الدستور الجديد يكفل حرية التعبير ويلزم حماية المقدسات الدَينية في نفس الآن وهو مبدأ استخدم كثيرا لفرض رقابة على المفكرين و الإنتاجات الفنية والفكرية ومنتقدي المعتقدات والممارسات الدينية في العالم ، فالفصل ذاته يكفل حرية الضمير ويفرض في آن واحد رقابة على حرية التعبير والاجتهاد في المسائل الدينية وهو ما يجعل العديد من الملاحظين يخشون أن يسعى نواب البرلمان عند حصول موازين معينة إلى تمرير قوانين تتعلق بتفعيل دور الدين في الحياة العامة وبالتالي إلغاء حرية الضمير كما يؤكد عديد الفقهاء أن التلقين العقائدي للأطفال والشباب في سنَ مبكرة المنصوص عليه بالمادة 39 من الدستور سيقوض مبدأ حرية الضمير وسيحدَ مع الوقت من الطابع المدني للدولة كما يرى عديد المختصين في القانون الدستوري بأن هناك لبس بين المادتين الأولى والثانية من الدستور قد يفتح صراعا محتملا في المستقبل من شانه أن يحد من الطبيعة المدنية للدولة .
أما بالنسبة للهيئات الدستورية فإن المجلس التأسيسي أهمل دسترة هيئة هامة وهي المجلس الاقتصادي والاجتماعي .كما أن مؤسسة الموفق الإداري تم عرض مسألة دسترتها على المجلس التأسيسي إلا أن الأغلبية البسيطة رفضت ذلك دون تعليل والحال أن مؤسسات التوفيق والامبودسمان باعتبارها محرارا للديمقراطية الاجتماعية ومدافعا عن الحقوق في كونيتها وشموليتها أصبحت مدسترة في كل أنحاء العالم بما ذلك العالم العربي (المغرب مثلا دستر مؤسسة الوسيط التي أحدثت بتاريخ 17 مارس 2011 أي بعد 19 سنة من إحداث مؤسسة الموفق الإداري يوم 10 ديسمبر 1992).
إن دسترة هذه المؤسسة تعتبر احتراما للمعايير الدولية ذلك أن مؤسسات الأمبودسمان تسعى إلى إنصاف المتظلمين والسعي إلى حل مشاكلهم مع مختلف الإدارات والهيئات المسيرة لمرافق عمومية وهي مرصد للكشف عن التجاوزات والإخلالات صلب الإدارة كما أنها تقدم المقترحات والتوصيات لإصلاح المنظومة الإدارية والنصوص القانونية والترتيبية.
لقد أدت حركة التدافع بين القوى السياسية وانعدام التجربة داخل المجلس الوطني التأسيسي إلى إنتاج نظام سياسي هجين ومشوه لا يمكن تحديد جنسه
إن نجاح أي نظام سياسي ديمقراطي يكمن في الفصل بين السلطات وإحداث توازن فعلي بينها من خلال الصلاحيات الممنوحة للسلطة التشريعية وللسلطة التنفيذية والسلطة القضائية .
لقد عانت بلادنا لمدة عقود من الدكتاتورية التي ترسخت بفعل انعدام التوازن بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وانعدام الرقابة بينها وإمساك رئيس البلاد بكل السلطات في إطار نظام رئاسوي
لذلك كان المجلس التأسيسي مطالبا بالعمل على ضمان التوازن بين السلطات و إرساء نظام ديمقراطي يغلق الباب نهائيا أمام أي محاولات فردية للتغول بالسلطة واحتكارها، إلا أن ما تضمنه الدستور بخصوص النظام السياسي تنقصه الدقة والوضوح لدرجة عدم قدرة العديد من الخبراء في المجال الدستوري على تحديد شكل نظام الحكم في تونس هل هو نظام رئاسي أم برلماني أم نظام مزدوج
عرفت نقاشات الدستور إصرار حركة النهضة على إرساء نظام برلماني وهو النظام الذي يعتبر من أعرق الأنظمة الديمقراطية .السويد أول دولة ملكية اعتمدت هذا النظام ليتم تعميمه بعد ذلك على عديد من الدول الاسكندنافية والهند وكندا وغيرها ومن أهم مميزات هذا النظام البرلماني الدور الشرفي والرمزي لرئيس الدولة الذي لا ينتخب مباشرة من الشعب .
أما المسير الفعلي للسلطة التنفيذية فهو رئيس الحكومة الذي يمثل الأغلبية البرلمانية التي تنتخبه وهو مسؤول أمام البرلمان الذي يمكنه سحب الثقة منه .
أما النظام الرئاسي فيتميز بالفصل بين السلطات ورئيس الدولة منتخب مباشرة من الشعب وهو أيضا رئيس الحكومة التي تتكون من وزراء يملك هو صلاحية تعيينهم وإعفائهم .
إن النظامين البرلماني والرئاسي لا يتطابقان مع ما ورد في الدستور الجديد فرئيس الدولة منتخب من الشعب وله عديد الصلاحيات إلا أنه مسؤول أمام البرلمان ولا يرأس الحكومة .
لقد أكَد مقرر الدستور وعضو المجلس التأسيسي بأن النظام السياسي الذي تبناه الدستور هو نظام مزدوج يمزج بين الرئاسي والبرلماني .
يعتبر عديد الفقهاء في القانون الدستوري أن النظام السياسي المنبثق من الدستور نظام مشوه سعت من ورائه الأطراف السياسية إلى إفتكاك صلاحيات معينة لفائدتها عوضا عن إيجاد توازنات تضمن الاستقرار .
إن الدستور لم يبين بوضوح العلاقة بين البرلمان ورئيس الجمهورية من جهة وبين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية من جهة أخرى . إذ تم التنصيص على التشاور على بعض المسائل إلا أنه لم يبين كيفية حل الإشكال إذا لم ينجح التشاور بين الطرفين كما أن الدستور لم يبين الآثار المترتبة عن عدم قبول رئيس الجمهورية أداء اليمين للوزراء الذين منحهم البرلمان الثقة أو عن رفض البرلمان قبول رئيس الجمهورية لأداء اليمين أمامه في غياب المحكمة الدستورية كما أنه تمَ في الدستور فصل السياسة الخارجية والدفاع المسندة لرئيس الدولة عن السياسات العامة الدولية التي هي بيد رئيس الحكومة دون بيان كيف سيتم تقريب وجهات النظر بين الطرفين عند تطبيق هذه السياسات المرتبطة ببعضها، إن الدستور الجديد أغفل الحديث عن التحوير الوزاري ولم يضبط إجراءات واضحة له مما يجعل أي تحوير جزئي عملية معقدة تمرَ بمراحل عديدة منفصلة عن بعضها تماما ومقسمة بين عديد المؤسسات البرلمان رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ولم يوضح الدستور آليات التنسيق بين المؤسسات وكيفية فض الخلافات بينها.
إن الدستور أنشأ سلطة تنفيذية برأسيين متنافسين متباعدين دون تبيين لكيفية التنسيق وحل الإشكاليات بينهما . فإذا كثر الرَبابين غرقت السفينة
إن هذه الإشكاليات وغيرها جعلت من التوازن بين السلطات التي ادعى نواب المجلس التأسيسي أنه تم تضمينها بالدستور مجرد حبر على ورق يثير لدى الشعب الحيرة والقلق ويسد أمام الوطن كل أفق
- الإطار القانوني إيجابياته وسلبياته
- القانون الانتخابي يعيق الانتقال نحو الديمقراطية
إن جوهر العملية الديمقراطية مثلما نراه في البلدان الديمقراطية التي أرست تجارب ثابتة وناجحة يكمن في تحميل الفائز في الانتخابات المسؤولية أمام الشعب وعلى أساس تقييم أداء الحكام يجدد الشعب فيهم الثقة أو يقصيهم في الانتخابات المقبلة وتنظم الانتخابات وفق قوانين مضبوطة وتفرز من الصناديق حزبا أو أحزابا مسؤولة تؤلف حكومات وتتحمل مسؤولياتها تحت رقابة البرلمان ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وبذلك يتوفر الاستقرار والتداول السلمي على السلطة.
أما في تونس فإن القانون الانتخابي أصبح يشكل عائقا لتقدم الديمقراطية
وفي هذا الصدد يؤكد العديد من أساتذة القانون الدستوري ومنظمات المجتمع المدني المختصة في مراقبة الانتخابات بأن التمثيل النسبي باعتماد أكبر البقايا الذي يرتكز عليه النظام الانتخابي اليوم أثبت عدم جدواه .إذ أنتج في انتخابات 2014 وانتخابات 2019 برلمانا فسيفسائيا عجز عن القيام بدوره الرقابي وفشل في إقرار معارضة حقيقية وفعالة الأمر الذي تسبب في المشاحنات السياسية والاهتمام بالمشاكل الهامشية و نجم عنه تعطيل كل الإصلاحات الجذرية في المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخلف لدى المواطنين شعورا بالاستياء من الطبقة الحاكمة وخاصة الأحزاب السياسية والعزوف عن المحطات الانتخابية بكل أشكالها . إن النظام النسبي للانتخابات على القوائم في دورة واحدة يستند في توزيع المقاعد بحسب حصة كل قائمة من عدد الأصوات وتوجد طريقتان للتوزيع إما بأكبر البقايا أو بأكبر المتوسطات .
وقد اختارت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي بصفة استثنائية بالنسبة لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي النظام الانتتخابي النسبي مع أكبر البقايا حتى يكون المجلس النيابي ممثلا لأكبر عدد من الاحزاب والأطياف السياسية ولا يستأثر حزب بالأغلبية المطلقة تمكنه من وضع دستور على مقاسه يخدم مشاريعه ويحقق أهدافه .
ولو تم تطبيق نظام أكبر المتوسطات خلال سنة 2011 لتحصلت حركة النهضة على 147 مقعدا أي أكثر من ثلثي المقاعد والحال أنها تحصلت على 91 مقعدا فقط بفضل نظام اكبر البقايا .
إن التمثيل النسبي تم اعتماده في فترة الانتقال الديمقراطي لضمان عدم استفراد حزب واحد أو حزبين بالمجلس التأسيسي ولضمان تمثيلية متنوعة حتى يكون الدستور توافقيا يضمن مصلحة الشعب والوطن إلا أنه تم اعتماد نفس النظام الانتخابي سنتي 2014 و 2019 وباءت محاولات تغييره بالفشل .
ما انفكت بعض القوى السياسية وخاصة مكونات المجتمع المدني تنادي بتغيير النظام الانتخابي بالتوازي مع تغيير النظام السياسي لإحداث الجدوى والفاعلية وإقرار المسؤولية السياسية .
إن الدعوة لتنقيح النظام الانتخابي في غياب أي توافق بين الفاعلين السياسيين ومكونات المجتمع على مبدأ تنقيحه وعلى مضامينه وعلى جعله في خدمة المصلحة الوطنية بعيدا عن خدمة مصلحة بعض الأطراف يجعل من تلك الدعوة صيحة في وادي غير ذي زرع
ب – سلبيات القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية
تعتبر المحكمة الدستورية ركنا حصينا في الانتقال الديمقراطي وهي حسب الفصل الأول من قانونها الأساسي هيئة قضائية مستقلة ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات
لقد اتفق أعضاء المجلس التأسيسي على منح فترة انتقالية بسنة واحدة تلي الانتخابات التشريعية لإرساء المحكمة الدستورية ( الفصل 148 من الدستور ).
إن القانون الأساسي المنظم للمحكمة الدستورية الصادر في 3 ديسمبر 2015 شابته عديد السلبيات إذ اشترط ترتيبا محددا في تعيين أعضاء المحكمة لا يمكن لأي جهة البدء فيه دون أن تستكمل الجهات السابقة عملها وهو ترتيب مخالف للدستور الذي لم يفرضه . كان بإمكان رئيس الجمهورية حسب الدستور أن يبادر بتعيين 4 أعضاء في انتظار استكمال المجلس النيابي والمجلس القضائي انتخاب بقية الأعضاء.
أما السلبية الثانية فتتعلق بانتخاب 4 أعضاء من قبل مجلس نواب الشعب وأساسا باشتراط أغلبية الثلثين وهي أغلبية من الصعب الوصول إليها وقد أثبتت التجربة ذلك .
السلبية الثالثة تتعلق بعدم حياد أعضاء المحكمة الدستورية فرغم أن الفصل 8 من القانون الصادر في 3 ديسمبر 2015 نص على استبعاد المرشحين من قبل الأحزاب أو الذين تحملوا مسؤوليات صلبها إلا أن الاعتبارات السياسية التي يقع اِعتمادها واضحة وجلية لأن الترشح من قبل الكتل البرلمانية يحيل بالضرورة إلى الأحزاب السياسية لإعطاء رأيها بعيدا عن الأضواء.
السلبية الرابعة تكمن في استبعاد هيئات المجتمع المدني وخاصة الهيئات المختصة في القانون أو المدافعة عن حقوق الأنسان من تقديم مرشحين إلى مجلس نواب الشعب إذ بقى الترشح حرَا وهو ما سيدفع بالأحزاب السياسية إلى دفع مناصريها بتقديم مطالب ترشحهم وبالتالي يصبح التحييد التام لأعضاء المحكمة من التجاذبات الإيديولوجية والحزبية أمرا صعب المنال وسيعيق أعمال المحكمة الدستورية التي ستتأثر حتما بمواقف الأحزاب السياسية التي ساندت مناصريها للفوز بعضوية المحكمة
هكذا ستخضع قرارات المحكمة الدستورية للتجاذبات الحزبية واختيارات سياسية لأن الدستور يشتمل على عدة تناقضات في مواد تستوجب التأويل .
د – سلبيات القوانين المنظمة للهيئات الدستورية
لقد كرس الدستور التونسي الصادر في 26 جانفى 2014 صنفا جديدا من أشخاص القانون العام وهي الهيئات الدستورية المستقلة وتعتبر الدسترة ضمانا لعدم العودة إلى الوراء بإلغاء هذه الهيئات من الوجود وإرجاع اختصاصاتها إلى السلطة التنفيذية مثلما تنادي بعض الأصوات بإرجاع مسألة تنظيم الانتخابات إلى وزارة الداخلية .
إلاَ أن النصوص المتعلقة بالهيئات الدستورية لم تتضمن مفاهيم دقيقة وتوزيعا واضحا للصلاحيات داخل مجالس الهيئات أو بين المجالس ورؤساء الهيئات وبين المجالس والأجهزة التنفيذية وهو ما أدى إلى استقالة بعض أعضاء الهيئات المستقلة مثل الهيئة العليا المستقلة للقطاع السمعي البصري والهيئة العليا المستقلة للانتخابات ، كما تم تسجيل انسحاب بعض المترشحين بعد انتخابهم من البرلمان لعدم فوزهم برئاسة الهيئة المستقلة .
لقد تم استبعاد السلطة التنفيذية من مسألة اختبار أعضاء الهيئات الدستورية وتم إسناد تلك المهمة إلى السلطة التشريعية باعتبارها تتمتع بمشروعية انتخابية ولئن تم صلب الدستور إقرار آلية الأغلبية المعززة لانتخاب واختيار أعضاء مجالس الهيئات المستقلة كشرط لضمان عدم هيمنة اي حزب أو وجهة سياسية على عملية اختيار الأعضاء فإن تلك الآلية فضلا عن كونها أداة تعطيل فقد أصبحت غير ضامنة لاختيار أعضاء مستقلين يتمتعون بالكفاءة والنزاهة وحتى السلم التقييمي الذي اعتمده القانون لفرز الترشحات وإحالتها على الجلسة العامة فإن القانون لم يسلط جزاء على عدم احترامه و لم يلزم الجلسة العامة لمجلس النواب بالعمل وفق ذلك السلم بل هي مقيدة فقط أثناء التصويت بترتيب المترشحين، وكثيرا ما يتم اعتماد التوافق في اختيار المترشح بصرف النظر عما أفضت إليه عملية الترتيب من قبل اللجنة البرلمانية الخاصة وهو ما يفرغ عملية الفرز الأولية من محتواها، ويؤدي إلى إخضاع مجالس الهيئات للمحاصصة الحزبية مثلما حصل للهيئة المستقلة للانتخابات عند الشغور الحاصل لمجلسها سنة 2017 . إنَ هذا التمشي إضافة إلى الترشح الحر والمباشر الذي يتم عادة بدفع من الأحزاب السياسية إنما يؤثر سلبا على استقلالية أعضاء مجالس الهيئات الدستورية الذين سيردون حتما الجميل لمن رشحهم وساندهم بحيث تصبح الهيئة الدستورية لا تعمل وفق القانون بل وفق أهواء مناصريها من الأطياف الحزبية والسياسية .
يتضح جليا مما سبق بسطه إن معوقات الانتقال الديمقراطي ترجع أساسا إلى الدستور والقانون الأمر الذي يجب معه الإسراع في إدخال التنقيحات الضرورية والشاملة لتخليص الدستور من سلبياته والقوانين الأساسية هناتها، وذلك قصد إنجاح المسار الديمقراطي عبر إرساء نظام سياسي ديمقراطي يقوم على التوازن بين السلط ويضمن حقوق الانسان ويحمي الشعب والوطن من كل المحن
إذا كان أصل الداء يكمن في الدستور والقوانين الأساسية فإن الحسابات السياسية والتجاذبات الحزبية التي شابت الممارسة قد زادت الداء إستفحالا .