يصعب أن يمر شهر جانفي منذ عقود، على تونس، دون أن يشهد زخما من الحراك الاجتماعي والشعبي الذي عادة ما ينطلق مطلبيا ليبلغ ذروته نحو مطالب سياسية تصل أوجها برفع شعار اسقاط النظام..وهج دأب عليه التونسيون في شهر جانفي البارد يستعينون فيه بالاحتجاج وسيلة لاستجلاب الدفء به لمقاومة قساوة الطبيعة عليهم.
وغير بعيد عن رمزية شهر جانفي،عرفت بداية سنة 2021، تحركات احتجتاجية ما تزال متواصلة في عدد من جهات البلاد، انطلقت بادئ الأمر بمطالب بالتنمية والتشغيل لتبلغ شعاراتها مطلب اسقاط النظام وحلّ البرلمان.
جانفي في ذاكرة تونس
بالعودة إلى التاريخ ،نجد أن الأحداث المفصلية التي عاشت على وقعها تونس، وقعت في شهر جانفي باختلاف السنوات، مسار إنطلق منذ زمن الاستعمار وتحديدا يوم 18 جانفي 1952 حيث اأعطي الضوء الأخضر لشرارة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار،خطوة مثلت منعرجا في تاريخ الحركة الوطنية.
رمزية استمرت ما بعد الاستقلال مع المحاكمات السياسية التي تمّت في شهر جانفي من سنة 1963 على إثر المحاولة الانقلابية التي قامت بها في أواخر 1962 مجموعة لزهر الشرايّطي، لتبلغ ذروتها بداية من 26 حانفي 1978، التي عرفت حراكا عمّاليا كبيرا طالب خلالها النقابيون باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل عن حزب الدستور لتلتحم تحركات النقابيين مع مطالب شعبية لفئات واسعة من التونسيين بسبب غلاء المعيشة.
زخم جانفي اشّتد مع انتفاضة الخبز التي وقعت أوائل شهر جانفي 1984 وكانت شرارتها الأولى في مدينة دوز التابعة لولاية قبلي في شكل مظاهرات أسفرت عن مواجهات بين المتظاهرين وقوات البوليس لتتسع رقعة الاحتجاجات وتشمل غالبية جهات البلاد، أعلنت على إثرها حالة الطوارئ في كامل أنحاء البلاد وتم منع تجمع أكثر من 3 أشخاص إلا أن ذلك لم يمنع المواطنين من النزول إلى الشوارع والتظاهر. وتصاعد زخم جانفي، مع أحداث الحوض المنجمي التي انطلقت يوم 4 جانفي 2008 لتمتد على 6 أشهر التحم فيها النقابيون مع اهالي الحوض المنجمي في مواجهة سياسات نظام بن علي غير العادلة، واجهها النظام بفيالق من البوليس للجم غضب المنتفضين واعقبها باعتقالات واسعة شملت شباب ونقابي الجهة.
وبلغ الزخم مداه ابان ثورة الحرية والكرامة، التي انطلقت يوم أحرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد ، يوم 17 ديسمبر 2010، لتتسرب الاحتجاجات الى جهات عديدة منتفضة على وضع بلغ مداه من الفساد والظلم والقمع. التحم في الحراك العمال بالأساتذة، بالنقابيين، بالشباب ليكون شهر جانفي 2011 نقطة فارقة في تاريخ تونس المعاصر، سقط يوم 14 جانفي 2011، بفضل هبة الشعب، نظام قمعي بوليسي أذاق المثقفين والفنانين والسياسين والنقابين والمواطنين ألوان العذاب.
قراءة سياسية تاريخية لشهر جانفي
أرجع الكاتب والمحلل السياسي وأستاذ الفلسفة فريد العليبي في تصريح لـ”JDD” جذور ارتباط شهر جانفي بالحراك الثوري إلى فترة الاستعمار الفرنسي، حيث انطلقت الحركة الوطنية المسلحة وحركة المقاومين في شهر جانفي 1952 مضيفا ” فتحت انتفاضة 26 جانفي 1978 شهية الشعب لشهر جانفي، يومها نفذ الاتحاد العام التونس للشغل اضراب عاما كبيرا سقط فيه عدد من الشهداء..جاء بعده تاريخ عملية قفصة في شهر جانفي سنة 1980 واعقبتها انتفاضة جانفي 1984″.
واعتبر العليبي انه بربط المواعيد التي جدت في تونس على امتداد سنوات خلال شهر جانفي خُلقت للشهر رمزية خاصة لدى عموم التونسيين ومن هنا اصبحت القوى النقابية والسياسية والطلابية تنظر لهذا الشهر باعتباره حمالا لرمزية الحراك ولهذا دأبت هذه القوى على الخروج فيه للاحتجاج تقديرا واحتفاءا برمزيته واستجلابا للزخم الثوري الذي يمثله.
زخم شهر جانفي متواصل
عاد المحلل السياسي فريد العليبي على التحركات الاحتجاجية التي جدت في الأيام القليلة الماضية والتي ما تزال متواصلة، معتبرا أن زخمها موجود ومتواصل لافتا إلى انها نجحت في تغيير المشهد، عبر تغيير زاوية النظر الى الاحتجاج الاجتماعي لتصبح ايجابية، موضحا “لأول مرة يعترف رئيس الحكومة بوجود أزمة وفي هذا دلالة على أن التحركات الاجتماعية غيرت المعادلة السياسية الحالية وأجبرت السلطة القائمة على الاعتراف بواقع الامور وعلى تغيير خطابها”.
واعتبر العليبي أن الحراك الاجتماعي أثر على الإعلام الوطني من جهة وعلى السياسين من جهة أخرى كما أثر دوليا اذ أصبح ينظر الى نظام الحكم القائم في تونس على أنه نظام غير شعبي يعتقل أبناءه، بحصيلة 1200 شخص موقوف على خلفية هذه الاحتجاجات، مرجحا أن يستمر الحراك في الأسابيع القادمة.
جانفي شهر الثورة، هو الشهر الذي يخشاه الحكام ويحسبون له ألف حساب، شهر يمر صعبا عليهم حدّ أن يشعروا أحيانا أنه الشهر الذي لا ينتهي، في مقابلهم ينتظره أبناء الشعب ويسعون لاستجلابه واستحضاره طلبا لدعم نفسي يشحنهم للخروج مطالبين بتحسين أوضاعهم.