أعلنت الخميس 24 ديسمبر النيابة العمومية بالقطب القضائي المالي عن اصدار بطاقة إيداع بالسجن ضدّ السياسي ورجل الأعمال نبيل القروي على خلفية الاشتباه في تورّطه في عمليات تهرب جبائي. ماذا يعني إيقاف نبيل القروي وماهي دلالات ذلك؟
يعتبر التوقيت عنصرا مهمّا في مثل هذه العمليات القضائية، اذ مازالت البلاد على وقع إضراب القضاة الذي مازال صداه متواصلا، وهو الاضراب الذي مكّن القضاة من قوّة جديدة أعطتهم إشارات أنهم قادرون على الدولة.
ثانيا مازالت البلاد تعيش على وقع قضيّة النفايات الإيطالية التي أخذت منعرجا سياسيا بعد ثبوت تورّط شخصيات رسمية مثل وزير البيئة وبعض أعوان الديوانة، أي أنّ جزءا من ممثلي الدولة مورطون في جريمة لها ثلاثة ابعاد، بعد جنائي وبعدين سياسي وأخلاقي.
ثالثا، توقع بعض أجهزة الدولة والمتابعين إمكانية تنشيط الحراك الاجتماعي من خلال عمليا التحريض المتواصلة وعبر آلية التنسيقيات التي يُعتقد أن فيها آثار قيس سعيّد وخطه النظري والسياسي.
رابعا قرب نبيل القروي من رئيس الحكومة هشام المشيشي لا يعفيه من المسؤولية، لأنّ رئيس الحكومة لن يقف في وجه حركة “الماكينة” القضائية والسياسية ان هي تحرّكت.
من خلال هذه العناصر يمكننا أن نطرح بعض الفرضيات التي يمكن اختبارها للتأكد من مدى صدقيتها على أرض الواقع. قد لا يكون للمشيشي ومستشاريه الرغبة في إيقاف نبيل القروي باعتباره أبرز الحلفاء المؤقتين، ولكن تلك الرغبة لا معنى لها أمام حركة منظومة متوهّجة ولها ظرفيا حاضنة جماهيرية تتبنّى بشكل بافلوفي نسبة الى بافلوف Pavlov شعار محاربة الفساد دون التفكير فيه أو حتى اعمال جزء من العقل المتاح عدلا بالتساوي بين كلّ البشر.
فرضيات خطيرة
من بين الفرضيات التي يمكن طرحها: إيقاف نبيل القروي قد يكون للتغطية على قضيّة النفايات الإيطالية، لأنّه تمّ استعمال نفس الآلية خلال قضيّة الياس الفخفاخ، اذ تمّ طرح موضوع التلاعب بالانتخابات وقضايا فايسبوك. مبرّر طرح هذه الفرضية هو وجود ائتلاف ثلاثي حاكم يعتبر حزب قلب تونس أحد أهم أعمدته، وهو تحالف داعم للحكومة الحالية التي لها حق تحديد السياسة الجزائية العامة والسلطة على النيابة العمومية بموجب مجلّة الإجراءات الجزائية مع وجود ثقافة لدى بعض قضاة بالتقرب الى السلطة مهما كانت السلطة. هذه الفرضية لها نتيجة مفادها أنّ المشيشي لم يكن قادرا على حماية نبيل القروي من الزحف القضائي، كما أنّ حليفي القروي وهما النهضة وائتلاف الكرامة ليس لهم القدرة على تأمين حرية حليفهم.
هناك فرضية ثانية، وهي أنّ القضاة تمكّنوا من قوة إضافية واضحة وجلية خاصة بعد اضراب ديسمبر 2020، اذ تبيّن لهم أنهم قادرون على تركيع الدولة دون خوف من ردّة فعل أي وزارة بما في ذلك وزارة العدل، ويُعْتَبرُ انهاء الزحف القضائي ووضع حدّ لهيجان العناد بين الهيكلين، أي الجمعية والنقابة، ذكاء من حكومة المشيشي التي اكتسبت قدرة على إدارة أزمة المرفق العدلي وهو ما يعني وجود معطيات كافية وعلاقات حاسمة لإنهاء تلك الأزمة.
فرضية أخرى تُمكننا من الحديث عن انفلات قضائي، أي أن بعض القضاة استشعروا القوة والحضانة الجماهيرية الجديدة ليدخلوا مرحلة من المزايدات، اذ في البال ما يقوم به كل قاض من قرارات ضد شخصيات معروفة، فهذا يوقف وزير البيئة وآخر يوقف نبيل القروي والآخر يوقف شخصية قد تكون أهم والقائمة طويلة. اذ لدى بعض القضاة عين على ملفات القضائية وعين أخرى على ما يُنشر في شبكات التواصل الاجتماعي، ألم يبدأ الناشطون حملة أسموها الأيادي النظيفة أسوة بما جرى في ايطالبا.
اذ من العسير قبول أنّ بطاقات الإيداع ضدّ سياسيين معروفين و”نافذين” هي نتيجة لاستقلالية القضاة أو استقلالية السلطة القضائية، اذ من العسير جدّا ان لم يكن من المستحيل الحديث عن تلك الاستقلالية في ظلّ دولة غير ديمقراطية، ومن غير المقبول أن يتحوّل قضاء الحكم بسرعتين والقضاء الذي هو في أسوأ حالاته (تصريحات أنس الحمايدي) الى قضاء مستقل ونزيه بشكل مفاجئ ومباغت.
المغامرة القضائية الضررية
عند اختبار تلك الفرضيات أمام مراكمة الواقع وحقيقة المعطيات فإننا نجد أنفسنا أمام معطيات مثل اعتبار رئيس الجمهورية أنّ نبيل القروي من الأعداء، ولم تمرّ مناسبة دون أن يوحي الرئيس بفساد غريمه، كما أنّ الجمهور أصبح يطالب بأن يكون للسلطة القضائية اليد الطويلة في استئصال الفساد وإيقاف النافذين المتكبرين عن الدولة والمجتمع وهو نوع من طلب الانتقام والتشفي.
بهذا المعنى تصبح القرارات القضائية الصادرة ضدّ سياسيين مثل وزير البيئة أو نبيل القروي أو غيرهما خاضعة بالضرورة الى المزاج العام، ولا يمكن نفيها واعتبارها حركة قضائية لأياد نظيفة الاّ عندما تطال التتبعات القضائية كلّ المتهربين واللصوص والحيتان الكبيرة تطيقا للقانون والتزاما بمقولة كلّ المواطنين هم متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات.
اذن إيقاف نبيل القروي هو اختبار ممتاز للقضاء، فإمّا أن يبدأ مغامرة استقلاليته ضمن أطر الدولة، اذ لا وجود لقضاء خارج أسوار الدولة بل هو أحد أبرز ركائزها، وإمّا أن نجد أنفسنا أمام قضاء الأهواء والحملات على شبكات التواصل وبالتالي سنسقط في غوغائية القرارات ونسقط أيضا في دولة القضاة وباعتبارها دولة غير ديمقراطية فإننا سنجد أنفسنا أمام ديكتاتورية قضائية قد تدخل مخاطر تصفية الحسابات. اذن لفهم ماجرى يجب أن نضع القرار في سياقه لنفهم أنّ الأمر مفتوح على أكثر من احتمال.
منجي الخضراوي