تنهدت طويلا وقالت، داهمني طلق الولادة خلال النصف الثاني من الليل، نقلني زوجي(موظف بالدولة) على عجلة من أمره الى مستشفى الرابطة (وسيلة بورقيبة )، ومن هنا بدأت مأساتي، هكذا تقول منيرة التي ما زالت تعاني حتى هذه اللحظة من آثار ذكريات الرعب في يوم ولادة طفلها الثالث….
« منيرة الدلهومي » سيدة اربعينية ام لطفلين، تروى قصتها وتجربتها في غرفة الولادة بأشهر مستشفى عمومي مختص في أمراض النساء و التوليد بالعاصمة تونس.
تجربة مريرة
ما إن تطأ قدميك باب الاستقبال في المستشفى ، تنطلق رحلة العذاب بداية بالإجراءات الإدارية الروتينية الطويلة : »ما اسمك، أين بطاقة هويتك … » من ثم الانتظار لجلب كرسى متحرك مهشم للانتهاء بك في أخر المطاف إلى غرفة الرعب و الظلام والموت القابع في كل مكان متأتي من صراخ النساء اللاتي يتعرضن لكافة اشكال العنف اللفظي و التنكيل خلال عملية وضعهن لمواليدهن « .
وتضيف » الدلهومي »، بحكم تقدم سني حسب رأي الأطباء كان الطلق بطيئا لذلك قاموا بحقني دون وجه حق بحقنة الطلق الاصطناعي ومن ثم الصدمة الكبرى التي تمثلت في فتح مهبلي بالمشرط دون تخدير ،بتعلة أن نبض طفلي كان ضعيفا مما سيشكل خطر على حياته، أو سيسبب له إعاقة بدنية إن تم إنتظار المهبل يفتح بطريقة طبيعية.
وتتابع، منيرة لم تنتهي مأساتي بخروج طفلي، بل كاد ضغط القابلة بالقوة على بطنى أن يخنقني ألما وعندما صرخت من شدة الألم قامت بشتمي بألفاظ جنسية تشير بها إلى العملية الجنسية بين الرجل و المرأة.
وبينما تمثل الولادة في حياة المرأة تجربة ذاتية و معقدة بحسب التعريف الذي نشرته المكتبة الأمريكية الوطنية للطب، فإن آلام المخاض تحتل فيها مرتبة عالية على مقياس تصنيف الألم بالمقارنة مع تجارب الحياة المِؤلمة الأخرى.
العنف في صالة الولادة هو أحد أسباب الصدمة ما بعد الولادة
وفي ذات السياق تعتبر الدكتورة « فاتن المديني » أخصائية نفسية أن للعنف في صالات الولادة تأثيرا سلبيا على صحة الحامل، ما من شأنه أن يولد لديها حالة نفسية صعبة ينتج الإرتباك الذي يؤدي إلى تعسر الولادة و إحتمالية تأذي الجنين أيضا.
وتتابع الدكتورة أن العنف الذي يمارس على المرأة في صالة الولادة هومن بين الأسباب الرئيسية لإكتئاب بعد الولادة والذي يمتد خلال فترة تتراوح بين أسبوعين و ثمانية أسابيع بعد الولادة، وقد يمتد حتى سنة حسب ما جاء في تعريف منظمة اليونيسف له،. يتجلى بأعراض مثل الحزن، القلق الشديد، و عدم القدرة على الإستمتاع بوجود الطفل.
توصيات منظمة الصحة العالمية
وبحسب منظمة الصحة العالمية هناك جملة من التوصيات صدرت عنها في تقرير سنة 2018 بشأن رعاية الحامل أثناء الوالدة لكي تخوض تجربة إيجابية عند وضع مولودها لرعاية الحامل خلال الولادة، منها تزويد الأم برعاية مبنية على الاحترام، ومعاملتها بطريقة تصون كرامتها وخصوصيتها وسرية شؤونها، وتقديم الدعم المستمر خلال المخاض ووضع المولود..
ويجب على مقدمي الرعاية الصحية إلى الأمهات خلال الولادة، أن يتواصلوا معهن تواصلًا فعالًا باستخدام أساليب بسيطة ومقبولة ثقافيًا.
و توصي المنظمة باتباع تقنيات الاسترخاء مع الحامل المتعافية التي تطلب تخفيف آلامها خلال المخاض، ومنها التدرج في إرخاء عضلات جسمها وحثها على التنفس باستمرار.
الولادة القيصرية … عنف مخفي
ايناس الغربي: كانت المرحلة الأفضع في حياتي …تبلغ رضيعتي الآن ستة أشهر وجرح العملية القيصرية ما زال ملتهبا…
ايناس موظفة بمؤسسة عمومية تقول فاجأني الطلق و أنا في منزلي أقوم بتحضير الطعام لزوجي و ابنتي ذات الثلاث سنوات حينئذ أخذني زوجي بعجلة إلى المصحة الخاصة في إحدى الضواحي الراقية، ما إن دخلت غرفة الولادة إلا و جاء الطبيب يهرول ويصرخ بصوت عال « فورا قوموا بتحضير غرفة العمليات سنقوم بتوليد السيدة قيصريا ، حينها صعقت لهول ما سمعت …
وتضيف إيناس كل شيء كان على ما يرام طوال فترة حملي، كل التحاليل و المتابعات الطبية تشير إلى أن الولادة ستتم طبيعية دون الإلتجاء إلى العملية القيصرية، إلى أن حل يوم ولادة ابنتي تم ادخالي عنوة إلى قاعة العمليات…
ومن هنا بدأت معاناتي التي استمرت لأشهر طوال، تعفن على إثرها جرح العملية القيصرية نتيجة إستعمال الطاقم الطبي لأدوات طبية غير معقمة خلال العملية القيصرية، لأمر فور ولادتي حد هذه اللحظة إلى سلسلة من التحاليل و استعمال المضادات الحيوية لمعالجة الإفرازات الصديدية و الإلتهاب جراء تهاون الإطار الطبي بخصوص تعقيم الأدوات الطبية حسب ما ورد في التقارير الطبية على حد قولها والتي تمكنا من الإطلاع عليهم لكنها رفضت نشرهم.
الولادة في المنزل أسلم وأكثر إنسانية
بنظرات اشمئزاز، رمقتني قابلة المستوصف واتهمتني أني بإنجابي المزيد من الأطفال أساهم في تعميق الفقر و البؤس في المجتمع نظرا لحملي بطاقة علاج العائلات محدودة الدخل… بصوت خافت ودموع رددت حفصية أصيلة إحدى القرى بالشمال الغربي التونسي هذه الكلمات وتابعت كان حملي بطفلي الرابع طبيعي أذهب فيه بشكل دوري للمستوصف للحصول على مكملات غذائية بسبب نقص الحديد في جسمي، إلى حد اللحظة التي تعرضت فيها إلى نوع من الضغط النفسي و الشعور بالخوف من قبل القابلة إتجهت إلى سيدة طاعنة في السن عرف عنها أنها كانت تقوم بعملية توليد النساء في السابق بقريتنا سردت لها ما حصل لي خلال أخر كشف طبي، فقالت لي جهزي نفسك سأشرف بنفسي على توليدك في منزلك.
وتواصل حفصية صحيح أني أرهقت خلال عملية الولادة في منزلي لكنها كانت تجربة مريحة نفسيا بالمقارنة مع تجاربي السابقة مع أطفالي الذين وضعتهم في المستشفى، خضعت خلال ولادتي بهم إلي شق في المهبل (العجان أو منطقة العجان الواقعة بين فتحة المهبل و فتحة الشرج ) من ثم غرز العجان ، و العودة إلى المستوصف إثر الولادة بأسبوع لإزالة الغرز.
وتشير آخر الإحصائيات التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء سنة 2021إلى إنخفاض كبير في نسبة الولادات مقارنة بالسنوات الماضية حيث بلغ عدد الولادات لسنة 2021 160268 بينما ناهز عدد الولادات سنة (2013) 222962 ما يعني أنه خلال 8 سنوات تراجعت نسبة الولادات بــ 28.11 بالمئة.

ووفق ذات الإحصائية إنخفضت الولادات المسجلة في المنازل إلى نصف العدد المسجل خلال سنة 2013 من 16649 حالة ولادة في المنازل إحتلت فيها ولاية منوبة العدد الأكبر بـ2911 حالة، إلى 8383 حالة سنة 2021،إحتلت فيها نفس الولاية العدد الأكب

فيما يولد 266طفل في الدقيقة الواحد في العالم تختلف فيها ظروف الولادة، و الرعاية التي تتلقاها الأم خلال عملية الولادة بحسب منظمة الصحة العالمية.
ففي سنة 2013 ماتت 289000 امرأة خلال الولادة و أعقابها ، كان من الممكن تلافيها إن تمتعت الأم بالرعاية الكافية وفاقا للمعايير الطبية السليمة التي ممكن من خلالها تجنب ارتفاع عدد الوفيات و الآثارالجانبية التي ترافق المراة جراء عدم تلقي الرعاية الكافية خلال عملية الولادة.
التعامل مع المرأة في صالات الولادة أي إطار قانوني؟
وفي ذات السياق تؤكد الدكتورة عايدة قايد السبسي أستاذة مبرزة في القانون بكلية العلوم السياسية والإجتماعية والقانونية بتونس، أنه لا يوجد قانون خاص بالعنف في قاعات الولادة في المقابل هناك مجموعة قوانين التي تتنزل في هذا الاطار مثل قانون 58 لسنة 2017 المتعلق بمناهضة العنف ضد المراة وبما أن المجال الذي نتحدث عنه يقع في خانة العنف ضد المرأة يمكن الإستناد إلى هذا القانون.
وتضيف الدكتورة أن النصوص الخاصة بأخلاقيات المهنة بالنسبة إلى طبيب التوليد و النساء، و القوابل وحتى الممرضين، تشيرإلى ضرورة إحترام الحرمة الجسدية للمريض وبهذا نستخلص أن كل الأسلاك المنظمة للمهنة تخضع وجوبا لهذه النصوص التي بدورها تحمي المراة داخل صالات الولادة.
على عاتق من المسؤولية تحمل؟

من جانبها تقول القابلة بمستشفى عزيزة عثمانة ورئيسة الجمعية التونسية للقبالة وفن التوليد « سعيدة فريو » أن تجربة الولادة في مستشفياتنا أصبحت تمثل في السنوات القليلة الماضية رعبا حقيقيا للنساء، خاصة في ظل عدم الأخذ بعين الإعتبار آراءهن حول الوضعية الأنسب لهن خلال عملية التوليد الطبيعية معتبرة أن ّإجبار المرأة على الولادة بوضعية الإستلقاء على الظهر هو انتهاك لحقوق الإنسان للنساء الحوامل.
و تضيف « فريو » أن العنف المادي المسلط على المرأة أثناء المخاض و الوضع يتخذ عدّة أشكال أبرزها الفحص المهبلي دون مراعاة حالة الهشاشة النفسية التي تمر بها المرأة عند المخاض،إذ شبهت الفحص المهبلي المتكرر بالإعتداء الجسدي ، وأنه لا يرتقى في بعض الأحيان إلى المعاملة الإنسانية، وتعتبر أن قص العجان قبل الوقت المحدد أمر غير مقبول إنسانيا وصحيا للوليد الجديد.

وتابعت « فريو » أن الخطر و القمع النفسي الكبير الذي تتعرض له المرأة خلال عملية التوليد هو تجاهل الطاقم الطبي إغلاق النوافذ و تركها مكشوفة للعموم من شأنه أن يولد لدى المرأة حالة من رهاب الحمل و الولادة في المستقبل.
وواصلت رئيسة جمعية القبالة و فن التوليد، أنه من الممكن تفادي تعرض النساء إلى كافة أشكال التعنيف و التمييز من خلال بعث مراكز مختضة لتكوين المشرفين من الطواقم الطبية على عمليات الولادة، لوضع جملة من القواعد و المعايير العلمية لإنجاح وتسيير عملية الولادة للأم و الطاقم الطبي على حد السواء.
وأشارت « فريو » أنه هناك فراغ تشريعي يحدد مسؤولية مهنة القبالة بمعنى أخر ما للقابلة و ما عليها، إذ ترتكز تحديد مسؤولية مهنة القبالة فقط على النصوص والمواثيق الأخلاقية المنظمة لمهنة القبالة.
وتابعت سعيدة فريو أن المسؤولية الطبية تجاة المرأة في صالة الولادة يتحملها كافة الطاقم الطبي العامل خلال عملية الولادة.
صمتهن يعمق الهوة
وتواصل فريو أن صمت أغلب الحالات اللاتي يتعرضن لكافة أشكال العنف المادي و المعنوي يفتح الباب أمام التمادي في تسليط العنف عليهن، و أن عدم تتبع و لو أخلاقيا من تسبب في الأذية يعمق من هذه المشكل ليصبح ظاهرة.
وزارة الصحة لا تولي إهتمام للتكوين
وختمت فريو أن الجمعية التونسية لفن القبالة و التوليد كانت قد قامت بحملات عديدة للتحسيس حول هذا الموضوع، و كانت قد قدمت مقترح مشروع لوزارة الصحة لبعث مركز لتكوين القابلات مختص في التعاملات المثلى و الصحية مع النساء في صالات الولادة وفقا للمعايير الطبية العالمية و الإنسانية إلا أن الجمعية لم تتلق أي تفاعل جدي
و مثمر من قبل الوزارة.
وعلى صعيد متصل أكد الصحفي الإستقصائي وائل النهيدي و الذي إستغل على نفس الموضوع، أن المستشفيات العمومية التونسية إمكانياتها محدودة ما يجعل غالبية روادهامن ذوات الدخل الضعيف و المتوسط، ناهيك عن ارتفاع الضغط الكبير المسلط على الإطار شبه الطبي ما يدفعهم أحيانا للتعامل معهن بنوع من الترفع و الإساءة.
ويضيف النهيدي أن غياب الرقابة صلب المراكز الطبية التابعة للدولة، يعد عاملا من عوامل ارتفاع نسق ظاهرة العنف في صالات التوليد ما يجعل المتظلمات غير قادرات على الحصول على حقوقهن عند التظلم.
البلدان الغربية لا تقل فضاعة
وكشفت مذكرة بحث » لماريان لابيرك « نشرت في جامعة مونتريال بكندا في شهر ماي من سنة 2018، أن 28 مرأة من أصل 499 عاشوا تجارب سلبية (مادية ومعنوية)خلال عملية التوليد أصبن بمتلازمة إضطراب ما بعد الصدمة.
ويشير البحث أن تجربة الولادة السلبية يمكن أن يكون لها تأثيراعلى المدى البعيد ، حيث كشف البحث أن النساء الكنديات اللواتي لديهن تجارب سلبية خلال الوضع يعزفن عن الإنجاب من جديد، ما من شأنه أن يؤثر على السلوك الإنجابي في المجتمع الكندي.
الولادة تجربة إنسانية إستثنائية يجب أن تتم في كنف الراحة و الإعتناء بالأم و الطفل وحسب المعايير الإنسانية، ووفق ما جاء في توصيات المنظمات العالمية و القوانين والتشريعات الدولية.



