A la une
ترامب، المغرب والصحراء: إشارة استراتيجية إلى الجزائر وتونس

بقلم: نزار الجليدي
في يوم السبت 2 أوت/أغسطس، أعلن دونالد ترامب أنه “يعيد التأكيد على الدعم الثابت من الولايات المتحدة لسيادة المغرب على الصحراء الغربية”. وبتصريحه أن مبادرة الحكم الذاتي المغربية لعام 2007 تشكل “الأساس الجدي والواقعي الوحيد” لتسوية دائمة، يكون قد أغلق الباب أمام الأمم المتحدة في هذا الملف. وبهذا البيان البسيط، قد يحاول ترامب إحداث زلزال جيوسياسي في منطقة المغرب العربي.
هذا الإعلان لم يكن مفاجئاً في حد ذاته، إذ يأتي امتداداً لولاية ترامب الأولى حين اعترفت الولايات المتحدة، في عام 2020، بسيادة المغرب على الصحراء مقابل تطبيع العلاقات مع تل أبيب ضمن “الإتفاقيات الإبراهيمية”. إلا أن إعادة التأكيد عليه في عام 2025 يغيّر طبيعته. لم يعد مجرد مناورة دبلوماسية منعزلة، بل أصبح خطوة سياسية بنيوية ضمن منظومة أمريكية جديدة في المنطقة. ترامب لا ينوي اتباع نهج بايدن المتحفظ أو حيادية أوباما. زمن الغموض انتهى – والسؤال المطروح هو: لماذا الآن؟
بالنسبة للجزائر، التي تدعم حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، فإن هذه الخطوة استفزاز مباشر. تصريح ترامب يكرّس ميزان قوى غير متكافئ بين الرباط وتندوف. فمن خلال نسف إمكانية إجراء استفتاء شعبي، وتهميش مطالب جبهة البوليساريو، تعمد واشنطن إلى عزل أبرز دعامة دبلوماسية للجزائر في هذا الملف. والأسوأ من ذلك، أن موقف ترامب هذا يتماشى مع مواقف أخرى مماثلة صدرت عام 2025 عن لندن وباريس، ما يجعله أقرب إلى “إجماع غربي” – قد يكون هذا مكسباً ظاهرياً للرباط، لكنه لا يخلو من مخاطرة سياسية لترامب على جبهات أخرى عديدة لا يتّفق فيها مع أوروبا.
من تصوّر أن ترامب يتفاوض بحسن نية؟
هذا التحوّل نحو المغرب إن صح التعبير يُفهم أيضاً كنوع من العقوبة غير المباشرة. فالجزائر لم تقبل يوماً الضمنية السياسية لاتفاقيات أبراهام. لم تساوم يوماً في علاقتها مع إسرائيل، ورفضت أي تدخل أمريكي في قضية الصحراء. والنتيجة؟ ترامب يدفعها نحو الهامش. تصبح الجزائر الدولة التي ينبغي تطويقها، إنهاكها، أو حتى إخضاعها اقتصادياً – كما يتضح من الزيادة المفاجئة في الرسوم الجمركية التي أعلنت عنها واشنطن في 9 يوليو (بنسبة 30% على عدد من المنتجات الصناعية). كان ذلك تمهيداً لتحول أعمق في العلاقة.
أما بالنسبة لتونس، فالوضع أكثر التباساً، لكنه لا يقل خطورة. تونس، التي اختارت الحياد الرسمي في ملف الصحراء، لطالما تمسكت بصمت دبلوماسي حذر. إلا أن هذا الصمت بات عبئاً في سياق تتصاعد فيه الاستقطابات. دعم ترامب الصريح للمغرب يضع تونس أمام مأزق استراتيجي: إما أن تساير بهدوء هذا التوجه، فتخسر سمعتها التاريخية كبلد محايد ومتضامن مغاربياً، أو أن تحافظ على مسافتها، وتتحمّل تبعات فتور محتمل مع واشنطن. هو، عملياً، خيار بلا خيار، فعلاقة تونس والجزائر متينة.
الذي ينفذه ترامب لا يقتصر على دعم المغرب. بل هو مشروع استراتيجي أوسع يعيد رسم خرائط الولاءات في شمال إفريقيا. على كل دولة أن تحدد موقعها – ومن يرفض الاصطفاف، يُقصى ويُعاقَب. هكذا، يتحوّل محور الرباط–واشنطن إلى مقياس للامتثال الإقليمي. من يقبل بالصفقة يجني الأرباح الدبلوماسية والاقتصادية. ومن يرفض، كحال الجزائر وتونس، يتعرض لضغوط مباشرة أو غير مرئية.
هناك بعد آخر نادراً ما يُناقش: الاستغلال الانتخابي للملف. ترامب لا يخاطب شعوب المغرب العربي فقط. بل يخاطب ناخبيه. قاعدته الانتخابية – المسيحية الإنجيلية، المؤيدة لإسرائيل، والمولعة بالقوة العسكرية – تنتظر مواقف صارمة، واضحة، مبسطة. من خلال دعمه العلني لإسرائيل، وتهميشه الداعمين التقليديين لفلسطين، وتفضيله حليفاً كالمغرب، يوجه ترامب رسائل طمأنة داخلية دون أن يقدم أي تنازل دبلوماسي حقيقي. ويبدو أيضاً أن استراتيجيته الإفريقية لن تمر عبر المغرب العربي في آخر المطاف: فتوقيع “الإطار الاقتصادي الإقليمي” في نفس اليوم، بين كينشاسا وكيغالي في واشنطن – بإشراف مسعد بولس – هو الذي سيشكل المحور الفعلي لسياساته في القارة.
الضغوط والانقسامات والتهديدات: استراتيجية ترامب أمام صلابة المواقف المغاربية
منذ أسابيع، يجوب مبعوثو إدارة ترامب الجديدة شمال إفريقيا بوتيرة متسارعة. رجل الأعمال اللبناني-الأمريكي مسعد بولس، الذي يشغل منصب المستشار الأعلى لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض، قام بجولة شملت عدة عواصم مغاربية بنتائج متفاوتة.
في تونس، كانت زيارته كل شيء إلا ودية. السلطات التونسية، الحريصة على تقاليد الحياد الدبلوماسي، استقبلته ببرود ظاهر. إضافة إلى الاستقبال المهين الذي خصّه به الرئيس قيس سعيّد في قصر قرطاج، تشير مصادر مطلعة إلى أن الاجتماعات المغلقة اتسمت بتوتر شديد. بولس لمح، بشكل شبه صريح، إلى استعداد واشنطن لتقديم تسهيلات مالية مقابل تقارب أمني مع شركتين معروفتين بدعمهما العلني لإسرائيل. عرض غير مقبول. بل متفجر سياسياً. في المزاج العام التونسي، مجرد التلميح إلى التطبيع يعني خيانة. هذا يتجاوز السياسة. إنه معطى أنثروبولوجي، مرفوض ثقافياً، مرفوض دينياً وإنسانيا، وقبل كل شيء: انتحار سياسي.
في الجزائر، كانت اللقاءات أقل توتراً لكنها فارغة المضمون. الجزائر قدّمت واجهة بروتوكولية حكيمة: لا رفض صريح ولا قبول واضح. سياسة إخماد المبادرات دون التصادم معها. الرئاسة الجزائرية تعرف جيداً أن مجرد التلميح إلى التطبيع مع إسرائيل يفتح شرخاً اجتماعياً وحتى مؤسساتياً. لا توجد مؤسسة جزائرية تقبل بذلك أبدا. وترامب – إن كان مطّلعاً فعلاً – يدرك هذا. لكن من يضمن شيئاً معه؟
فلماذا الإصرار إذن إذا كانت الإدارة الأمريكية تعلم مسبقاً أن لا تونس ولا الجزائر ستُطبع؟ لأن الهدف ليس إنجاح التطبيع. بل اختبار الصلابة، خلق الانقسام، وزعزعة التوازنات. ترامب لا يسعى لبناء محور إقليمي موالٍ لأمريكا. بل يعمل على إضعاف المناطق التي لا يسيطر عليها. وهو ما يظهر بوضوح في السياسة الجمركية الأمريكية. ففي 9 يوليو، أعلنت واشنطن فرض رسوم جمركية عقابية: 30% على صادرات الجزائر، و25% على صادرات تونس. علماً أن أي دولة أوروبية لم تُستهدف بمثل هذه التدابير. التبرير الرسمي يتحدث عن “إعادة توازن”. لكن الحقيقة أنها وسيلة ضغط موجهة ضد العاصمتين المغاربيتين اللتين ترفضان الاصطفاف.
هذه الإجراءات قد تُحدث ارتدادات داخلية. في تونس، تعقّد وضعاً اقتصادياً هشاً أصلاً، لا سيما في القطاعات غير الطاقية كالميكانيك والنسيج والصناعات الغذائية. في الجزائر، قد تُقوّض الطموحات الاقتصادية لما بعد النفط. وفي كلتا الحالتين، تُجبر الحكومات على البحث عن هوامش تفاوض – دون القدرة أو الرغبة على تقديم أي تنازل في ما يخص فلسطين أو الصحراء أو السيادة الوطنية.
وفق الرؤية الأمريكية، لم يعد المغرب العربي وحدة سياسية. بل أرخبيل مصالح، يعاد تشكيله وفق منطق ترامب. المغرب هو الحليف المستقر، المتوافق مع إسرائيل، والمفيد اقتصادياً. الجزائر هي القوة الإقليمية التي ينبغي تطويقها وربما خنقها. تونس هي الكفة التي يجب ترجيحها بأي ثمن، بصرف النظر عن الملف. ومن خلال تعميق الفوارق، تساهم واشنطن في إنهاء ما تبقى من مشروع اتحاد المغرب العربي – والمفارقة أن المغرب نفسه ساهم، بتطبيعه الإنتحاري، في هذا الانهيار.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه السياسة تخاطب الداخل الأمريكي أولاً. ترامب لا يصوغ دبلوماسية، بل يبني رواية انتخابية قابلة للاستمرار حتى في حال عهدة مستقبلية للحزب الديمقراطي. في أعين قاعدته الانتخابية، لا يهم إن رفضت تونس أو الجزائر الانصياع. ما يهم هو أنه “يضعهم تحت الضغط”، “يحمي إسرائيل”، ويجعل “غير الممتنين يدفعون الثمن”. إنها دبلوماسية استعراضية، حيث تتحول كل أزمة إلى مادة سردية. ومن خلال تمركزه حول المغرب، يضمن استمرارية خطابه: حتى لو وصلت شخصيات ديمقراطية كألكساندريا أوكاسيو-كورتيز إلى السلطة، فإن المساس بالمصالح الإسرائيلية سيبقى محرماً على السلطة الأمريكية.
استراتيجية التفتيت و الحائط المسدود
ما يطبّقه ترامب في أوروبا، يكرّره في المغرب العربي: سياسة التفتيت الاستراتيجي. من خلال تقوية بعض العواصم وتهميش أخرى، يدفع الفاعلين إلى الانعزال، وفك الارتباط بالتضامن التاريخي، والانزلاق نحو علاقات تبعية ثنائية مع واشنطن. لا يعرض مشروعاً إقليمياً مستقراً. بل يزرع خطوط التصدع، كما فعل سابقاً بعزل المغرب عن جيرانه خلال ولايته الأولى. يدرك جيداً أن اتفاقيات أبراهام لن تمر في الجزائر أو تونس أو ليبيا. السياق الشعبي والسياسي والأمني لا يسمح ولن يسمح. لذلك لا يسعى إلى ضمّهم، بل إلى إغراقهم. بإثقالهم بالمشاكل الداخلية، وتحريضهم على بعضهم البعض، وقطعهم عن أي رؤية جماعية… إنها سياسة “الانقسام النشط”، أحد اختصاصات واشنطن منذ عقود.
الصحراء الغربية هنا تشكّل الأداة المثالية. إنها الجرح المؤسس للمغرب العربي، ذاك الذي لم ينجح حتى الحلم الوحدوي في الثمانينات في رأبه. الجزائر لن تتنازل، والمغرب كذلك. وهذا تدركه المؤسسات الدبلوماسية الأمريكية، حتى وإن تجاهله ترامب. عندما جدّد دعمه الصريح للرباط في 2 أوت، لم يعزز فقط موقف المغرب، بل ضغط على الجرح الذي يفكك وحدة المنطقة.
وراء المواقف العلنية، هناك أيضاً نفاق استراتيجي صارخ. ترامب يكثر من التصريحات “الإيجابية” تجاه الجزائر: انفتاح، شراكات طاقية، احترام لدورها في الساحل الإفريقي… لكنها تصريحات بلا مضمون. فسياساته تناقض خطابه. لا يسعى إلى دمج الجزائر في تحالف، بل إلى حصرها في دور “واجهة مفيدة” دون قيمة استراتيجية. متجاهلاً أن العداء المشترك تجاه أوروبا لا يكفي لبناء تحالف. لا بولس ولا ترامب – رغم حديثهم المتكرر عن “السيادة” – يدركان أن السيادة الجزائرية ليست للمساومة.
أما تونس، فينظر إليها كدولة قابلة للتشكيل. يعتقد ترامب أنه قادر على التأثير فيها، قلب مواقفها. لكنه يصطدم بجدار غير مرئي، لكنه لا يمكن تجاوزه: التطبيع مع إسرائيل. ليست مجرد خط أحمر. إنها خط أحمر، أحمر، أحمر. معطى ثقافي، سياسي، وجودي. مجرد طرحه يفتح الباب لأزمة وطنية. ليس احتمالاً أبدا، بل سيناريو انهيار، بغض النظر عن هوية من يحكم.
في النهاية، ترامب لا يقدّم رؤية للمستقبل. بل يفرض مخططاً أنانيًا. ومخططه يقود إلى طريق مسدود.
-
A la une4 أشهر ago
القضاء يأذن بالتحقيق في وفاة الطبيب زكرياء بوقرة
-
A la une5 أشهر ago
حتى لا يعود الأخوان !
-
A la une4 أشهر ago
تونس: أحكام بالسجن تصل إلى 66 عاماً في قضية “التآمر على أمن الدولة”
-
A la une4 أشهر ago
جبهة الخلاص الوطني تنظّم وقفة احتجاجية للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين
-
A la une5 أشهر ago
المعارضة الضعيفة لا تعني السلطة القوية: محاولة في فهم المشهد السياسي الراهن
-
A la une5 أشهر ago
أفريقيا.. هل تصبح سلة غذاء العالم؟
-
A la une4 أشهر ago
السلطات التونسية تمنع تظاهرة حول “المحاكمة العادلة” بدعوى الترخيص
-
الأخبار5 أشهر ago
أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة: صراع يؤجج الأزمات ويُعقّد المشهد السياسي